بات بالإمكان الحديث عن سلسلة أثمان دفعتها وستدفعها إسرائيل رداً على استشهاد أحد عناصر حزب الله في سوريا، الشهيد علي محسن. من هذه الأثمان ما دفعته ولا تزال في مرحلة ما قبل الرد، ومنها في مرحلة ما بعده. في السياق نفسه، بات بالإمكان الحديث أيضاً عن مرحلة ما قبل البيان ومرحلة ما بعده، بعدما نجح حزب الله في تحويل صمته الى أداة فاعلة في الحرب النفسية الموجهة الى قيادة العدو تحديداً، وتحويل الكشف عن نياته الى حدث مؤسِّس لما سيليه.
في محصلة ما قبل الرد التي لا تزال مستمرة، استنفار متواصل لجيش العدو على طول الحدود الشمالية مع لبنان والجولان المحتل. تدرك إسرائيل أكثر من غيرها الأثمان التي تدفعها في ضوء ذلك من هيبتها وصورتها الردعية: قطع طرقات المنطقة الشمالية، ووضع حواجز لمنع تنقل الآليات العسكرية عليها خوفاً من أن يصطادها مقاومو حزب الله، في موقف انكفائيّ مع ما فيه من معان على المستوى العسكري؛ إخلاء مواقع لتقليص الاهداف التي قد يستهدفها حزب الله، والاختباء في ما تبقى منها منعاً لظهور أي من الجنود والضباط على مهداف أسلحة حزب الله الرشاشة والصاروخية، إدراكاً من قيادة الجيش بعجزه عن ردع حزب الله عن جبي ثمن دموي منه.
الى ذلك، يضاف ارتفاع درجة التوتر وصولاً الى الشلل التام في شمال فلسطين المحتلة، نتيجة سقوط شهيد في دمشق، كما حدَّد وزير الامن السابق أفيغدور ليبرمان. ونتيجة لهذا التوتر أيضاً، دفعت إسرائيل من دم جنودها، حيث أدى الخوف من الصواريخ المضادة للدروع الى تدهور آلية وقتل جندي وجرح آخر قبل أيام في مزارع شبعا، وصولاً الى اشتباك جيش العدو أمس مع «ظلال المقاومين». والثمن الإضافي، أن فاتورة الحساب ازدادت كما توعّد حزب الله في بيانه، نتيجة إصابة أحد بيوت المدنيين في قرية الهبارية في العرقوب.
في الخلاصة، حاولت إسرائيل تفادي معادلة «إجر ونص» بعدما لمست أثمانها المعنوية التي دفعها الجيش من هيبته وصورته الردعية، لكنها وقعت في ما هو أشد منه، على المستوى المعنوي والردعي أيضاً. وأضيف اليه ارتباك إعلامي ناتج عن ارتباك الجيش، فتحدث بعضهم عن إطلاق صاروخ كورنيت ضد آلية عسكرية إسرائيلية، وتحدث آخرون أيضاً عن إحباط العملية واستهداف مجموعة من مقاومي حزب الله، ثم الحديث عن أن المجموعة عادت من حيث أتت. والأبلغ دلالة من كل الروايات، موقف رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، الذي أعلن أن الحدود مع لبنان «تشهد حدثاً أمنياً غير بسيط».
الواضح أن حزب الله نجح في توظيف صمته لإرباك العدو في فهم نياته العملانية، وانعكس ذلك على المستويات السياسية والامنية والاعلامية. ونجح أيضاً في تحويل بيانه الرسمي عن أن الرد آت حتماً الى حدث مؤسِّس لما سيتلوه من تداعيات في ضوء حسم حالة الغموض البنّاء الذي تعمده وانعكس على أداء جيش العدو وقياداته. وتحوّل إعلان البيان أيضاً، الى محطة بدَّدت كل رهانات الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي سبقته.
مفاعيل بيان حزب الله أصابت مباشرة مقرَّي رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، في شارع بلفور في القدس، ووزارة الامن حيث مقر رئيس الحكومة البديل ووزير الأمن بني غانتس في تل أبيب. سارع الرجلان الى عقد مؤتمر صحافي أدلى فيه كل منهما بمواقفه ورسائله بشكل مشترك، في رد صريح ومباشر على بيان حزب الله الذي فرض نفسه على تقديرات المؤسسة الاسرائيلية بشقيها السياسي والأمني إزاء مستقبل معادلة الردع القائمة على الحدود الشمالية.
لم يحاول نتنياهو أن يخفي خلفية تلاوة بيانه، فاعتبر في مقابل إعلان أن «الرد آت حتماً»، أن حزب الله «يلعب بالنار»، بهدف ترميم صورة الردع التي تلقّت ضربة قاسية مع الموقف الذي أعلنه الحزب في بيانه. ومن هنا، كانت دعوته الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الى «عدم الخطأ في تقدير تصميم إسرائيل على الدفاع عن نفسها». متجاهلاً بذلك حقيقة المفاعيل التي ستترتب على خطأ اسرائيل وقيادتها في تقدير تصميم المقاومة على الدفاع عن نفسها وعن لبنان.
وبالنسبة إلى التهديد التقليدي الذي وجّهه ضد لبنان، فهو تهديد مكرر غير قابل للصرف، لأن حزب الله، وبحسب ما يُقرّون في تل أبيب، سيستهدف الجنود رداً على استشهاد أحد عناصره، وبالتالي فإن توسيع نطاق اعتدائهم سيؤدي بالضرورة الى توسيع نطاق رد حزب الله.
والتزاماً بالرواية الرسمية التي ستجد تل أبيب صعوبة في التراجع عنها، أضاف نتنياهو أن «اسرائيل تنظر بخطورة كبيرة الى التسلل الى داخل أراضيها». والأهم أن نتنياهو أدرك، ومعه كل القيادات السياسية والعسكرية، أن حزب الله لا يفتش عن رد رمزي، من هنا كان كلامه لوزرائه بأن «الحادث لا يزال في طور التشكل والوضع متوتر». في السياق نفسه، أتى كلام غانتس الذي كرر الرواية نفسها، ومعزوفة أن «إسرائيل مصممة أكثر من أي وقت مضى على منع المس بسيادتها، وبجنودها وبالتأكيد بمواطنيها».
ويبدو أن الأصداء التي تركها بيان حزب الله في تل أبيب، على المستويين الحكومي والمعارض، تنبع من أن الموقف الذي أطلقه يعبّر عن تصميمه النهائي على جَبيِ ثمن دموي من جنود العدو. ورفض أي سلّم يجد العدو نفسه مضطراً إلى تقديمه الى حزب الله، رغم أنه يعكس مردوعيته (العدو) أيضاً. واتضح لهم أن حزب الله ليس في وارد القبول بإطلاق يد إسرائيل في اعتداءاتها تحت أي عنوان. وعليها أن تكون أكثر حذراً في أي خيارات عدوانية لاحقة، الأمر الذي سيفرض عليها مزيداً من القيود الكابحة.
ما لم يجرؤ نتنياهو وغانتس على الكشف عنه، انطلاقاً من موقعيهما الرسميين، تكفّل به العديد من المسؤولين والخبراء والمعلقين العسكريين الذي أظهروا الواقع الإشكالي الذي انحدرت اليه اسرائيل، بصورة دفعت العديد من المسؤولين الى رثاء حالتهم في مواجهة تصميم حزب الله. وزير الأمن السابق أفيغدور ليبرمان، أقرّ بعبارات كاشفة، عن أن الأمين العام لحزب الله (السيد حسن) «نصر الله أثبت مع الأسف أن الكلمة عنده كلمة. والعين بالعين والسن بالسن». وأعرب عن قلقه أيضاً من الحالة التي وصلت اليها إسرائيل، بأن يؤدي استشهاد «عنصر لحزب الله في دمشق الى شلل كل شمال إسرائيل». وفي الاطار نفسه، رأى وزير الامن السابق، أيضاً، نفتالي بينت، ورئيس حزب البيت اليهودي اليميني، أنه «نشأت معادله إشكالية، ونحن يجب علينا أن لا نسير على أطراف أصابعنا بسبب حزب الله».
لم تكن انتقادات هذا الثنائي (ليبرمان وبينت) يتيمة، بل كانت تعبيراً عن جوّ عام يسود الداخل الاسرائيلي، عكسه أيضاً، معلق الشؤون الأمنية في صحيفة هآرتس، يوسي ميلمان، على حسابه على موقع «تويتر»، منتقداً أداء الجيش الذي يتصرف «بشكل مقلق». وأوضح مقصده بأن جيش العدو «يخفف مواقعه، ويغلق طرقات» بهدف حرمان حزب الله المزيد من الأهداف. ويضيف ميلمان بطريقة لا تخلو من التحسّر، أن «الجيش رفع حالة الاستنفار لقواته المحتشدة خشية ردّ حزب الله على الحدود اللبنانية، على قتل غير مقصود لعنصر من حزب الله في سوريا». وتوّج موقفه بالقول إنه «ليس هكذا يتصرف الجيش القوي في الشرق الأوسط. من المهم منع المس بجنودنا، لكن الجيش بث الهلع بغطاء وسائل الاعلام»، معترفاً بأن «حزب الله انتصر بالضغط على الوعي». وشرح ميلمان معالم هذا الانتصار في موقع آخر، بالقول إن «حزب الله ينتصر في حرب الوعي، مرة تلو الأخرى»، مستدلاً على ذلك بأنه «يقود إسرائيل إلى الذعر». ولفت الى أن «تفاصيل حدث اليوم (أمس) ما زالت غير واضحة، لكن هذا لا يغيّر من وضع أن دولة بأكملها عاشت حالة ذعر بسبب عدد من ناشطي حزب الله». وفي الإطار نفسه، أتى وصف معلق الشؤون العربية في القناة الـ 13، تسيفي يحزقلي، بالقول إن «لدينا زعيماً (نصر الله) ينجح في جعل إسرائيل تقف على قدميها متى يريد ذلك».
أما رئيس الاستخبارات السابق، ورئيس معهد أبحاث الأمن القومي اللواء عاموس يادلين، فقد هبّ لنجدة مصداقية الجيش التي تصدّعت في أعقاب بيان حزب الله، فتوجه الى الجمهور الاسرائيليّ قائلاً: «أنا لا أجرؤ على التفكير في أن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي يصدر بياناً مفصّلاً كهذا ويكون غير صحيح». وأظهر خلفية تأكيده لهذا المفهوم بالقول إن «مصداقية الجيش الإسرائيلي مهمة جداً لمواطني إسرائيل». ولإدراكه بأن حزب الله أكثر موثوقية لدى الجمهور الاسرائيلي من الجيش توجه اليهم بالقول: «أنا أنصح بالوثوق بالمتحدث باسم الجيش، وليس بحزب الله».
علي حيدر – الأخبار