عندما بدأ وباء كورونا يجتاح العالم كانت كل العيون شاخصة إلى إيطاليا، التي تصدرت الحدث العالمي، قبل أن يبدأ الوضع فيها بالاستقرار منذ نحو أسبوع. عاشت إيطاليا شهراً صعباً عجزت فيه المستشفيات عن علاج المصابين، ففتك الفيروس بكبار السن، ومات منهم أكثر من 16 ألف شخص. كما فتك بالجسم الطبي ومات أكثر من 80 طبيباً كانوا يعملون على إنقاذ من أمكنهم إنقاذه. فليس سهلاً على دولة ديموقراطية وقوة اقتصادية الاختيار بين المواطنين لوضعهم على أجهزة التنفس الاصطناعي وفق عمرهم ووضعهم الصحي، واختبار عجز المستشفيات عن استقبال الأعداد الهائلة من المصابين، وفق ما كتب وليد حسين في “المدن”. ولعل حادثة تخلي الكاهن جوزيبّي بيرارديللي عن جهاز التنفس الاصطناعي لشخص أصغر منه بالسن، وموته بعدها صريع كورونا، الذي خطف له أنفاسه، يشي بمدى الظروف المزرية التي عاشتها مقاطعة لومبارديّا في الشمال الإيطالي، الذي ابتلاه الوباء. فأمام النقص الحاد بأجهزة التنفس اختار هذا الكاهن لأحد أديرة بيرغامو التخلي عن الأوكسيجين لمن هو أولى منه في البقاء، بعدما شعر أن حالته مستصعية على الشفاء. وفي بيرغامو التي تعتبر ثاني أكثر المناطق بتفشي الوباء بعد ميلانو، كان للأطباء اللبنانيين دور في مواجهة هذا الوباء. وبينما فضّل الطلاب والخريجون الجدد من اللبنانيين العودة إلى لبنان، اختار الطبيب اللبناني الشاب محمد حجازي البقاء هناك ومد يد العون للبلد الذي أحبه كما يقول في حديث لـ”المدن”. فقد تخرّج طبيباً في الطب العام، ويمارس المهنة منذ قرابة أربع سنوات ويعمل في مستشفى بولونييني دي سيراتي في بيرغامو، هذا فضلاً عن عمله كطبيب بديل في قسم الطبابة الأولية.عندما بدأ الوباء بالتفشي في المدينة كان المرضى يتصلون بغرفة الطوارئ، فتأتي إليه سيارة الإسعاف ويُجرى له فحص كورونا، بمعزل عن الأعراض القوية أم الخفيفة التي يعانون منها. لكن تفشي الوباء أحدث صدمة لدى الجسم الطبي، الذي بدا عاجزاً أمامه، كما قال حجازي. فعاملو الهاتف في أقسام الطوارئ باتوا يطلبون من المرضى المكوث في المنزل. حتى أن سيارة الإسعاف لا تذهب إلا بعد ذهاب الطبيب ومعاينة المريض في المنزل، ويقرر نقل الحالة إلى المستشفى من عدمها. في المستشفى حيث يعمل حجازي أوقفوا كل أقسام الجراحة وجميع العمليات المجدولة سابقاً، وابقوا على الحالات الطارئة منها، وتحولت كل الأقسام لعلاج مرضى كورونا. ففي وسط الأزمة كان ينقل يومياً أكثر من مئة حالة إلى المستشفى لتلقي العلاج. ورغم أن البروتوكول المعتمد قضى باعتبار جميع الحالات الطارئة كمصابة بكورونا، لجأت المستشفى إلى اعتماد بروتوكول الصورة الشعاعية لتشخيص المرضى، قبل الانتقال إلى إجراء فحص كورونا، بسبب النقص الحاد بالفحوص. فقد تفشى الوباء في المدينة بشكل رهيب، كما قال، موضحاً أن السبب ربما لأنها من المدن الغنية وتعج بالمولات التجارية الضخمة وكبرى السوبرماركت، حيث يكون آلاف المواطنين على تماس يومي. هذا فضلاً عن طبيعة العلاقات الاجتماعية والتقارب بين الإيطاليين، بعكس باقي الدول الأوروبية، حتى أن المواطن يبقى في منزل أهله حتى لما بعد عمر الأربعين عاماً، وفي حال تزوج يبقى على تواصل يومي مع عائلته. مرت المستشفى حيث يعمل حجازي، إسوة ببقية المستشفيات، بظروف صعبة، ولم يعد الأطباء يكترثون لعدد الحالات المصابة. فكل يوم كانوا يعاينون عشرات الحالات. بل باتوا قلقين على عدد الحالات التي بحاجة للعلاج في المستشفى، بعدما عانوا من نقص حاد في الجسم الطبي. ما استدعى الطلب من مقاطعات الجنوب نقل الأطباء إلى بيرغامو. وأكثر الاختصاصات المطلوبة كان أطباء الإنعاش، إذ فتك المرض بهؤلاء كثيراً. حتى أن صديقاً له، من بين أطباء كثر أصيبوا بكورونا، استدعت حالته إلى الدخول إلى غرفة الإنعاش. ومثل المستشفى مرت المدينة بمرحلة صعبة نفدت فيها عبوات الأوكسيجين من الصيدليات. لقد كان الوضع صعباً للغاية، كما قال. “لطالما طلبت لمرضى عاينتهم في بيوتهم عبوات الأوكسيجين من مدينة ميلانو. وكنت عندما أضع المريض على الأوكسيجين المنزلي أطلب من الذين يعتنون به الاقتصاد في استعمال هذه المادة الثمينة. فمثلا عندما يكون المريض بحاجة لأربعة ليترات أطلب من الأهل وضع ثلاثة ليترات”. وأضاف، أنه حتى الكمامات انقطعت من أسواق المدينة. وكان المواطنون عاجزين عن تأمينها، إلى أن وصل منذ نحو أسبوع ثلاثة ملايين كمامة من الصين، وزعت على السكان مجاناً. أما بدلات الوقاية فكانت غير متوفرة إلا في المستشفيات. وكان حجازي عندما يزور مريضاً في بيته يكتفي بوضع الكمامة والقفازات، إلى أن باتت البدلات الواقية بدورها متوفرة منذ نحو أسبوع، على حد قوله. وشرح حجازي حالة السكان مؤكداً أن المرضى كانوا حائرين لا يعرفون أين يتجهون في ظل هذه الأزمة. فأطباء العائلة باتوا يعاينون المرضى عبر الهاتف. أما الصليب الأحمر فلا يتحرك لنقل أي مريض إلا بطلب من طبيب معاين، بينما في العادة عندما يتصل مريض بالطوارئ تتحرك سيارة الإسعاف مباشرة وتصل بسرعة فائقة إليه. لذا كان المواطنون يستعينون بأطباء الرعاية الصحية، والأطباء البدلاء. وكان لي دور كبير في تشخيص الكثير من الحالات، بعدما استلمت نحو 1600 مواطن بدل عن طبيب المحلة الذي مات بفيروس كورونا. وكنت، بعكس زملائي الإيطاليين، عندما أرى حاجة لمعاينة المتصل أذهب فوراً”. وعن تجربته مع المرضى قال: “لقد ابتلت المدينة بهذا الوباء فجأة حتى بت كيفما ذهبت أشعر بأنني محاط بكورونا. لكنني لم أتوقف عن معاينة المرضى في بيوتهم. ولطالما أنقذت مرضى من خلال تطبيبهم في البيت أو من خلال نقلهم الفوري إلى المستشفى. فقد خصصت المدينة وحدة خاصة لكل مئة ألف شخص لمتابعة كورونا. ومنحوا طبيب الصحة العامة صلاحية تفعيلها لإنقاذ حياة المواطنين. وقد فعّلت هذه الوحدة أكثر من مرة، بعدما تبين لي أن المرضى يعانون من أعراض خطيرة على حياتهم. لقد تبين لي من هذه التجربة أن موافاة المريض في الوقت المناسب يساهم في انقاذ حياته. حتى أنني أذكر حادثة حصلت لا تتنسى. فقد اتصلت بي عائلة لمعاينة ربة المنزل البالغة من العمر 68 عاماً. كان وضعها سيئاً للغاية ولا يمكن حتى انتظار سيارة الإسعاف لنقلها إلى المستشفى. لكن لحسن حظهم كانت لهم قريبة ممرضة ولديها عبوة أوكسيجين للاستخدام المنزلي. وضعتُ لها الدواء في الأمصال والأوكسيجين، وطلبتُ من الممرضة إجراء اللازم. وبعد أيام عدة، عادوا واتصلوا بي شاكرين لي انقاذ والدتهم”. وعن وضع الوباء في المدينة أكد حجازي أن الأمور منظمة بعكس الفوضى السابقة، خصوصاً بعد تشكيل الوحدات الخاصة لإسعاف المرضى. أما في قسم طوارئ المستشفى فعادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل الوباء على مستوى عدد المرضى الذين يدخلون إلى هذا القسم. لكن هذا لا يعني أن إيطاليا بدأت بوضع الوباء خلفها. فقبل إيجاد لقاح لهذا الفيروس لن تعود الحياة إلى طبيعتها، كما قال. لم يكن حجازي طوال هذه المدة قلقاً على انتقال العدوى إليه: “ربما أصبت بهذا الفيروس. لا أعلم. فزميلي في المنزل كان مصاباً. وجاري الإيطالي السبعيني، الذي التقيت به مرة وطلب مني معاينة زوجته، التي كانت تعاني من ارتفاع حرارتها، ومن ضيق تنفس، أصيب هو الآخر أسوة بزوجته”. والوباء منتشر بكل أنحاء المدينة. فعلام أخاف؟ أريد لهذا البلد الذي أحب كل الخير، وسأستمر بعملي طالما أنا بصحة جيدة”، كما قال