كتبت مي بحسون
لا شيء يخترق جدار الصمت الرسمي والأمني المريب سوى صوت الطوافة تحط في سفارة عوكر، العدالة لا تأخذ مجراها ، بل تأخذ أوامر تبرئة الجلاّد من لحم ضحاياه الذي تآكل بالسوط وقضيب الحديد ، سُحب بكل برود كما سُحبت أظافر المعذبين من أطرافهم . فهل سمعتم يوماً عن السيدة اللبنانية الفاضلة “سيادة”، التي تحاضر فينا عن الإستقلال والقضاء النزيه ؟ لقد شاهدنا بأم العين كيف باعت شرفها، حين إخترقتها الطوافة الأمريكية لتقل العميل فاخوري .
في مزاد علني لبيع الضمائر على حساب عذابات أسرى وشهداء معتقل الخيام وعوائلهم، إشترت أميركا حرية مواطنها البار الذي رغى في دماء أبناء بلده لإرضاء الموساد وتحصيل موطئ قدم في بلاد الإفرنجة . للأبد موصمة بالعار ستبقى حكومة الذل حين شكرها ترامب على جهدها في إخلاء السبيل هذا ، أما القضاة من الذين خضعوا لسيطرة الإدارة الأمريكية فحسبهم من الجبن والخزي أنهم اجتمعوا في خلوة لإمضاء القرار، ونصيبهم من الخيانة الوطنية أن التاريخ سيلفظهم على لوائح اللعن والعمالة جنباً إلى جنب على جدران المعتقل.
بمشهدية أقرب إلى بساط الريح ، طار العميل وتبخرت معه آمال الشرفاء الذين لاحقوا القضية منذ يومها الأول، وإذ تسقط الدال من العميد إبن بلدة الخيام ، فاللام تنتظره عند أول مفترق طرق .
غادرنا العميل ، وترك خلفه جيش طويل ، يمجدون أميركا ، ينفذون إملائاتها ، يخدمون إسرائيل وينطقون بلسانها . وحدهم هؤلاء إقتنصوا الفرصة للتصويب على المقاومة بالتخوين والتشكيك ، وكأنها المسؤول الوحيد عن محاسبة العملاء ، ولكن من تجرّع آلام التعذيب وعايش ماذا فعل الإحتلال وأزلامه كالفاخوري بلبنان ، لن ينكر الجميل ، ولن يتناسى كيف دحرت هذه المقاومة الكيان خارجاً وخلصت اللبنانيين من بين أنياب وحوش العمالة . ولو إتُخِذ القرار بالتصفية ، لخرجوا علينا بنظرية الدولة داخل الدولة وتهمة إجترار الويلات والعقوبات إلى البلد .
جزار معتقل الخيام ، عامر فاخوري ، واللقب يسبق الإسم ، برتبة نقيب في جيش العميل انطوان لحد، بين العامين ١٩٨٨ و ١٩٩٨ ، تفنن الفاخوري في إبتكار وسائل التعذيب ، كان الأشرس والأكثر دموية ، وكم إستشهد على يده في الزنزانات المظلمة ، هو محترف صعقات كهربائية وسياسية على أسراه ، ينتزع في الأولى إعتراف إدانتهم، وفي الأخرى صك براءته ، الصدمة التي صبت على رؤوس المحررين ماءاً أشد برودة من ليالي شتاء الخيام القارص على أعمدة الحديد ، ولم يكن يدفئ الأجساد الجليدية سوى تراب قبر يحفره السفاح ما عرف مكانه إلى اليوم سواه .
وكفى بالأبدان المجردة من أثوابها على مرأى الملأ ستراً أنها ما ضعفت وما إستكانت ، أما العيب فللقضاء العسكري الذي تعرى وطفق يخصف عليه من ورق القانون . وإذ يغطي الصدأ قضبان المعتقل مع إنطواء السنين ، ما تزال حروق أعقاب السجائر تهيج و ” تنزّ” ( تنزف) دماً ، لم ينبت عليها جلد جديد ، كانت ستطيب لو أن الجزار أُعدم، فقط حينها يتحرر المظلومون من أشباح صوره يضربهم بالكرباج ، يعتلي وجوههم بحذائه العسكري ، ينكب عليهم بالضرب والرفس ، يشتم أعراضهم وينتهكها كأقذر تعذيب نفسي عرفوه قط ، صوت ذلك الشيطان المسعور يفجر شهواته الغريزية ما يزال يتردد صداه في المعتقل، حيث كان لزاماً أن يرجم بالحصى التي أركع المعذبين عليها ، لكن وبدلاً من ذلك عاد إلى زوجته المجندة الإسرائيلية وبناته بسجل عدلي نظيف ، وإذ يطفئ فاخوري سيجارته الأخيرة بأرزة العلم ، نخمد نيرانها بما تبقى لنا من ماء الوجه .
وعلى إسمه ، تاريخ عامر بالسفالة والعمالة، حتى ما بعد التحرير عام ٢٠٠٠، فبالهروب إلى الأراضي الفلسطينية وإستحصاله على الجنسية والجواز الإسرائيليين ، كعربون تقدير على جهوده ، تمكن الجزار من السفر خارجاً وإنتهى به المطاف خادم ترامب المقرب . لكن ومن دون ريب في مهمة جديدة ، عاد الفاخوري في أيلول ٢٠١٩ إلى لبنان ، عود برائحة الدم ، وبدأ نكأ الجراح ، وإستعاد المحررون وأسر الشهداء الذكريات الموجعة ، وشعروا أن القصاص بات وشيك .
وعلى الرغم من تواطئ بعض القوى الأمنية في إدخال الجزار خلسة إلى لبنان ، إلا أن التسريبات فضحت المستور . لم يكن في نية القضاء لا محاسبة ولا ملاحقة ولا حتى الإدعاء. لكن السخط الشعبي والمبادرات الفردية في تقديم الشكاوى، أحرج السلطة المتكتمة ، ووجد القضاء نفسه مجبراً على التمثيل ، وعلى إقامة جلسات صورية تخلف الفاخوري في كل المرات عن حضورها بحجة الوضع الصحي وغيرها . وبذريعة حمله الجنسية الأميركية، بدأت التدخلات والضغوطات للإفراج عنه ، ولطالما وجدت التعليمة في لبنان أذناً لها، وبإسم الشعب اللبناني جاء قرار المحكمة العسكرية بإبطال التهم الموجهة للفاخوري حسب قانون مرور الزمن العشري على رغم من تصويت لبنان على معاهدة دولية تنص على عدم خضوع الجرائم ضد الإنسانية للتقادم ، القرار كان مبرماً ومبرراً سلفاً بإنتظار توقيع القضاة الذي جرى خلال فترة التعبئة العامة دون إنعقاد جلسات أو حضور محامين منعاً لأي ردة فعل محتملة . فلينكس العلم اللبناني، لم يكن بالمقدور تعليق مشنقة عميل كان ولا يزال متلبس بجرمه ، أهان كرامة كل لبناني حر ، لقد أراق فاخوري وسواه دمائنا ، لكنه وحده عاد بمنتهى الجرأة والوقاحة ، ثقة بأن كفة الميزان العدلي سترجح حتماً لمن كان موكل أميركا في الدفاع ، وقريباً جداً سيروي الجزار للعالم كيف وقع فريسة إفتراء ، وستنتقم أميركا لمظلوميته . ولمن ثارت حميته بعد فوات الأوان ، تخبزوا بالأفراح . أسقطت التهم وأُسقطت معها الذمم .
