تحقيق محمد هاني شقير
دخل لبنان رسميًا في نادي الدول المنهارة، وقد كشفت ثورة 17 تشرين 2019 هشاشة النظام الاقتصادي اللبناني الريعي، وتكتل اللبنانيون، رسميون وشعبيون، حول المطالبة بتحويل البلد الى دولة منتجة وكبح جماح التجارة الخارجية غير المنظمة وفاقًا لمقتضيات الاقتصاد الوطني، التي فتكت بالصناعة والزراعة الوطنيتين.
مناسبة هذا الكلام تأخذنا مباشرةً الى الحديث عن وهن الزراعات الوطنية، ولا سيما وأن الزراعة هي مدماك اقتصادات العالم، لكنها في لبنان أصبحت هامشية ولا دور اقتصاديًا لها إلا لمامًا.
إن من أهم الزراعات الوطنية في لبنان هي زراعة التبغ التي يختص بها الجنوبيون ،ولكنها منتشرة بحدود معينة شمالاً وبقاعاً. غير أن هذه النبتة ارتبطت بذاكرة الجنوبيين فأصبحوا وإياها صنوين لا ينفصلان. وارتكز المزارعون في الجنوب على الانتاج الزراعي للتبغ وتمسكوا بأرضهم من خلالها وبها، حتى صاروا معها عنوانا للثبات والصمود في مواجهة اعتداءات وأطماع الدولة العبرية، وسقط منهم شهداء في خلال تواجدهم في حقولهم بصواريخ وقذائف جيش العدو.
جلجلة التبغ:
بين شهري شباط وآذار يبذر المزارعون مشاتل التبغ، ويخدمونها بشكل يومي لمدة تتراوح بين شهرين وثلاثة أشهر، حتى تصبح شتلات جاهزة للنقل والزراعة في الأرض. هذه الأشهر الثلاثة، يتخللها صرف تكاليف مادية تتراوح بين شراء حاجيات كالنايلون والحديد والأسمدة والمياه ،مضافًا إليها الجهد الذي يقوم به معظم أفراد العائلة، وبخاصة المرأة الجنوبية، طيلة أيام الأشهر المذكورة.
تقريبًا، في شهر نيسان يبدأ المزارعون زراعة الشتلات في أرضهم أو أرضٍ مستأجرة خصيصًا لهذه الغاية، وتمتد هذه العملية نحو شهرين، ومشوار الزراعة يتطلب حراثة الأرض مرتين على الأقل، ورش الأسمدة ومعاناة الانتظار بحسب هطول الأمطار ووحولة الأرض. وتتراوح تكاليف الزراعة بين أجرة عمال وحراثة الأرض وثمن مياه وأسمدة وغيرها من الأمور التي تشكل عبئًا على كاهل المزارعين، علمًا أن جميع أفراد العائلة اعتباراً من عمر 10 سنوات حتى الكهول يشاركون في هذه الجلجلة الطويلة من العمل.
بين مرحلة نمو الشتلات وبدء قطافها التي تزيد عن الشهرين، يقوم المزارعون بخدمتها على نحوين: الأول تعشيب الارض كي لا يصيب الشتلات العجز. والثاني: رشها بأسمدة وأدوية زراعية مخصصة لها لمقاومة العوامل المناخية المتقلبة التي تؤثر فيها سلبًا.
ثم تبدأ حكاية جديدة، فبعد أن ينصب المزارعون السقالة – أوتاد من حديد أو خشب بينها شريط شائك تعلق عليه الخيطان التي تشك فيها أوراق التبغ يبدأون بقطافها، إذ ينهض معظم أفراد الأسرة صباحًا ويذهبون الى حقولهم لقطافها ويحضرون الى المنازل حوالي الساعة السادسة فجرًا، حيث يباشرون بشك الأوراق في ميابر خاصة ومن ثم تفريغها بخيطان، وفي خلال هذه العملية يتناولون الفطور بعد أن تكون قد حضرّته إحدى صبايا العائلة أو الأم. وقبل حلول آذان الظهر يكونون قد فرغوا من الشك ويعلقون الخيطان على السقالة. وعندما تيبس تلك الخيطان يقومون بوضعها بما إصطلح على تسميته ( ربطة) مؤلفة من خمسة خيطان، ويعلقونها في خزانٍ تحت الأرض لعدة أيام كي تترطب قليلاً ومن ثم يضعونها في سقف غرفة من غرف المنزل الذي يضعون فيه قساطل حديد وعلاّقات مخصصة لهذه الربط. تستمر العملية حوالي شهرين أيضًا، حتى إنتهاء موسم القطاف.
بين نهاية شهر حزيران وبداية شهر تموز تنتهي هذه المرحلة، وتبدأ عملية جديدة، تسمى توضيب وتدنيك ( تصفيط وتأسيس كراسي) حيث يجري إنزال الرُبط من السقوف ويقوم معظم أفراد الأسرة بعملية التصفيط المذكورة.
في خلال الأشهر المذكورة يمكن تقسيم عمل الأسرة على الشكل التالي: خدمة المشاتل تقع بمعظمها على السيدات، وخدمة الزراعة يشارك فيها إلى جانب السيدات الآباء والأشقاء، كذلك الأمر في شك الأوراق يكون دور السيدات أكبر من دور الرجال، في الخدمة الأخيرة، أي التوضيب يقتصر عمل الرجال في ما سميناه بالتدنيك ويقع معظم الجهد الباقي على كاهل السيدات.
هذا في الجانب العملاني والجهد الذي يبذله المزارعون ليتحصلوا على قوتهم وقوت عائلاتهم، وتعليم أولادهم وسائر الخدمات الأخرى بينها بطبيعة الحال خدمة الطبابة وخدمة الشيخوخة.
ماذا عن الغلة وثمنها ومآلها؟
في السنوات التي سبقت عام 1990، كان المزارعون عندما يسلمون موسم التبغ في حدود شهر تشرين أول، يحصلون على ثمن محصولهم مباشرةً، فيسددون ديونهم المتوجبة عليهم لصاحب الدكان ويمّونون لمدة ستة أشهر على الأقل، ويبقى بحوزتهم ما يوازي ربع المبلغ الذي حصلوا عليه وهو بالكاد يكفيهم لتعليم اولادهم – علمًا أن التعليم كان بغالبيته رسميا – أو لطبابتهم وبخاصة الكهول منهم. استمر الجنوبيون على هذه الحال حتى سنوات قليلة خلت، وكانوا يناضلون بشكل دائم من أجل تحقيق عدة مطالب هي بمثابة حقوقٍ عادية في بلادٍ تحترم ذاتها. فهم يطالبون بضمان صحيٍ وبضمان شيخوخة وبطبيعة الحال برفع سعر التبغ. كان سعر التبغ يرتفع مع مرور الوقت بما لا يوازي ارتفاع المستوى المعيشي في لبنان، فدائمًا ما كان الجنوبيون “ملحوقين” وغير مواكبين لزيادة تكاليف الحياة على جميع الصعد. لكنهم صامدون ويحتملون كل هذا من أجل لقمة عيشٍ مغمسة بعرق جبينهم وتعبهم الذي لا يمكن إيفاءهم ثمنه مهما فعلت الدولة ومؤسساتها المعنية.
هذا العام كان الأمر مختلفُا، حيث انعكست جميع الظروف على المزارعين سلبًا، كما على جميع اللبنانيين، ففي السنوات القليلة الماضية كان المزارعون يعيشون بالإستدانة، عبر رهن رخصهم لدى المصارف وبخاصة “مصرف جمّال ترست بنك”، ويحصلون منه على قرضٍ يوازي ثمن محصولهم السنوي، ويعيشون بهذا المبلغ، وبديون سنوية أخرى، حتى تسليم المحصول فيقتطع منه المصرف قرضه وغالبًا ما يكون موازٍ لثمنه، فيجدد المزارع القرض لسنة جديدة. هذا العام وقعت الواقعة، وجرى إماتة المصرف المذكور بفعل سياسة أميركية ومصرفية لبنانية عليها مئات علامات الاستفهام، وهذا بحث آخر. فعندما ذهب المزارعون لفك رهن رُخصهم إضطر بعضهم لتسديد مئات الألوف للمصرف كون المحصول لا يكفي، وعاد بعضهم الآخر الى قريته بحوالي مئة ألف ليرة لبنانية. إن هذا الأمر يمكن أن يشمل ما نسبته 80 الى 85 بالمئة من المزارعين في حين أن النسبة الباقية، هم ممن لم يتحصلوا على قرضً سنوي. يضاف الى ذلك الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عصفت بالبلاد، وانعكست في أسعار المواد الغذائية وجميع نواحي الحياة، فزاد الخناق على المزارعين الذين لملموا موسمهم الحالي بكثيرٍ من القهر والتعب ومع الأسف من المحاباة أيضًا، وها هم يواصلون جني موسمهم بإنتظار لحظة تسليم المحاصيل.
علمًا ان المزارعين كانوا يتمنون هذا العام ان تبادر شركة الريجي الى اعطائهم قروضاً بدل تلك التي كانوا يحصلون عليها من المصرف، ورفعوا الصوت بهذا الخصوص واوصلوا رسائل الى المعنيين لكن محاولاتهم لم تجد صدى.
ماذا عن الأسعار لهذا العام؟
سابقًا، كان الهم الأساس للمزارع هو ضمان صحي وآخر شيخوخة، وهو مطلب مزمن مات كثير من المزارعين ولم يتحصلوا عليه، لا في زمن الجمهورية الأولى ولا في زمن الجمهورية الثانية بعد اتفاق الطائف.
الهم اليوم صار ما سيكون سعر كيلو الدخان لهذا العام؟ الهواجس والمخاوف لدى المزارعين كبيرة جدًا من هذا الأمر. في السنوات الماضية كان سعر كيلو الدخان يتراوح بين 12 و 15 ألف ل.ل. ما يعادل 8 الى 9 دولارات أميركية. يسأل المزارعون اليوم
ماذا عن أسعار الكيلو لهذا العام؟
مصادر معنية بهذا الموضوع أفادت أن سعر كيلو التبغ يجري تحديده في وزارة المالية التي بدورها تستمزج رأي مجلس الوزراء، أي أن القرار في نهاية المطاف هو قرار سياسي يصدر عن الحكومة. وأضافت أن التحضيرات اللوجستية جارية منذ اليوم بغية تسريع عملية تسليم محاصيل التبغ في الجنوب، وأن قرار زيادة الأسعار منوط بمجلس الوزراء الذي سيبحثه في الوقت المناسب.