لفت حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في حديث لمجلة “باري ماتش” الفرنسية الى الخسائر العامة في لبنان بلغت 81 مليار دولار نتيجة تراكم عجز الحساب الجاري وعجز الموازنة على مدى السنوات الخمس الماضية، مما انعكس على سعر الصرف.
واضاف: “كنا نفضل احترام تسديد التزامات لبنان الخارجية (سندات اليوروبوند) تجنبا لاضطراب قد يؤثر على تدفق رأس المال الأجنبي والعملات الصعبة، “ولكن، أغلبية صناع القرار في لبنان كانوا من الرأي المعاكس، وهكذا فاز الخيار الافتراضي وسحبنا اقتراحنا”.
وتابع سلامة أن “بعض القوى السياسية تحرّك جزءاً من الشارع لتشويه صورة المصرف المركزي وحاكم المصرف بطريقة كاريكاتورية، ان هذا الامر غير عادل فلسنا سبب المشاكل التي يواجهها لبنان، فعلى العكس أبقت السياسة النقدية المنفذة لفترة طويلة على أسعار الفائدة منخفضة في حين أن ديون البلاد زادت من عام لآخر”.
كما شدد سلامة على انه “اليوم، ورغم التقصير ورغم الركود الناجم عن فيروس “كورونا”، فان لبنان ليس مفلسا”، مشيرا الى ان عمليات استيراد البنزين والأدوية والطحين لم تتغير، “وان امتلاك مصرف لبنان لاحتياطات كافية لتمويل الواردات الأساسية، يثبت اننا قمنا بعملنا بطريقة مهنية. ولولا ذلك، لن يكون هناك مزيد من المصارف ولا مزيد من الأموال”.
وعن تضاعف سعر حليب الأطفال ثلاث مرات، أوضح سلامة انها ليست مسؤولية البنك المركزي، “بل تقع على عاتق أولئك الذين يستوردونه ويبيعونه. نفكر حاليًا بحل لاعتماد أسعار اقل من تلك التي يتداول فيها الصيارفة”.
كما لفت سلامة الى ان فارق ارتفاع سعر الدولار ما بين تداوله بـ4 آلاف ليرة مقابل 1500 ليرة في المصارف، قال انه يستحيل انكار تطور الاقتصاد النقدي، مشيرا الى ان المصارف لا تزال تسيطر على 90% من حركة التداول، مما يجنب البلاد المزيد من ارتفاع معدل التضخم وإفقار اللبنانيين. لا علاج مثاليا في مثل هذه الحال، لكن الاستمرار في العيش مع نظام سعر الصرف المزدوج هذا، يضمن الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. إذا اضطررنا للتخلي عنه، لا سيما في سياق المفاوضات الحالية مع صندوق النقد الدولي، سنكون مستعدين للتوصل إلى واقع يلائم البلاد”.
وتطرق سلامة الى موضوع الودائع المصرفية، فقال سلامة ان المصرف المركزي بادر ومنذ بداية الازمة، الى منح قروض للمصارف بالدولار أو بالليرة اللبنانية، لتتمكن من تلبية طلبات السيولة. ولتوفير الودائع، عليها أولاً تجنب الإفلاس. وقد حان الوقت لتتحمل المصارف والمساهمين حصة من الخسائر الناجمة عن الوضع أو التخلف عن السداد… على المصارف إعادة تكوين التزاماتها، وقد طلبت منها زيادة رساميلها بنسبة 20%، وتلك التي ستفشل، ستصبح تحت سيطرة مصرف لبنان”.
ورأى حاكم مصرف لبنان ان أداء الدولة افتقر الى الشفافية، “ولم يكن هناك ما يبرر بعض حالات العجز، خاصة عندما رفعت أجور القطاع العام. ثمة معلومات توزع عن التهريب والأسواق وايرادت الفيول. لقد وضع البنك المركزي القوانين والتعاميم لمكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي وتاليا الفساد، موضع التنفيذ. يبقى فقط تطبيقها بدقة”.
وعن انهيار الحوار ما بينه وبين الحكومة بعد اتهامه له بعد اطلاعها على التدابير الأخيرة، قال سلامة “ان الانتقاد لم يكن بسبب القيود بل بسبب التعاميم التي تسهّل حصول اللبنانيين على ودائعهم. علما ان البنك المركزي لم يتخط صلاحياته بموجب قانون النقد والتسليف. ورغم ذلك، نسعى جاهدين للحفاظ على الحوار والتعاون من اجل مصلحة البلاد”.
واضاف ان استقرار سعر الليرة اللبنانية كان حجر الزاوية في إعادة بناء الاقتصاد من خلال استعادة الثقة بالقطاع المالي وجذب رأس المال الأجنبي، وبالتالي السيولة من خلال أسعار جاذبة. “وبعيدًا عن نمط الحياة، فإن هذه السياسة سمحت للطبقة المتوسطة بالتعافي. لكن مثل هذا النظام يصبح ضعيفاً عندما يكون الدين غير معقول وتشحّ الأموال الواردة. من هنا، شهدنا نقطة تحول حقيقية في تشرين الثاني/نوفمبر 2017، عندما اضطر رئيس الوزراء سعد الحريري إلى إعلان استقالته من السعودية. كذلك، لم ينجح مؤتمر “سيدر” عام 2018، في تخفيف حدة الأزمة. الى ذلك، نُظمت حملة إعلامية عن انهيار لبنان وارتفاع أسعار الفائدة، فتراجع حجم الاستثمارات واتسع العجز على نحو كبير وسط التوترات الإقليمية، بما فيها الحرب السورية التي كلفت لبنان المليارات”.
كما أوضح ان الدولة من خلال مصرف لبنان عرضت لسنوات، ووفق آلية فريدة في العالم، أسعاراً مغرية على الرساميل المودعة في المصارف لتمويل الانفاق العام. يتحفظ بعضهم على الديون التي باتت بمثابة رواتب سنوية للمستثمرين والمصرفيين الذين استخدموا في هذه العملية”، مشيرا الى ان مستويات الفائدة التي عرضت لم تتجاوز 10% “بينما كانت مضاعفة مرتين او ثلاث من قبل تركيا او مصر. اذا وضعنا جانبا عمليات مالية محددة، فان الوضع لبلد مثل لبنان، كان مقبولا. اليوم تنخفض أسعار اسهم المصارف اللبنانية، فاذا كان قد حققت أرباحا فعلية، فهل هذا هو الحال؟ بعض الاتهامات مبالغ فيها وهي “كليشيهات” قديمة، يجب التزام الأرقام”.
وردا على سؤال عن عدم منعه هذا الاندفاع المتهور من خلال “تمويله 11 حكومة متعاقبة، معظمها متعسرة”، قال سلامة “على غرار الدائنين الآخرين، اطلقت ناقوس الخطر مرات عدة. وقد تأملنا جميعا بالسعي لتنفيذ الإصلاحات، لكن للأسف لم تكتمل. تُلزمنا المادة 91 من قانون النقد والتسليف بإقراض الدولة عندما تفتقر إلى الموارد. لحسن الحظ، يمكن القول أنه بدون هذا التمويل، لما تمكنت الدولة من دفع الأجور وتشغيل الكهرباء والمستشفيات، وكان الاقتصاد ليكون منهارا أكثر. لا نموذج في العالم على بنك مركزي أفلس حكومته”.
وعن خسائر المصارف ومصرف لبنان في ظل تراوح الأرقام بين 40 مليار دولار (100% من الناتج المحلي الإجمالي) و68 مليارا، أوضح سلامة انه وفقاً للتقييم الذي قدمه لوزير المال ولمجلس النواب، “فإن رأس مال البنك المركزي لا يزال إيجابياً. نحن قادرون على إجراء التعديلات المحاسبية المطلوبة للتفاوض مع الدائنين والشروع في الإصلاحات، دون اللجوء إلى المصارف أو الدولة، شرط أن تسدد الأخيرة ديونها لنا”.
وعما تبقى من احتياطي المركزي من الذهب والعملات الأجنبية، قال “حتى إذا أزلنا 5 مليارات يورو هي حجم التخلف عن السداد، فإن الاحتياطي يصل حاليا الى 30 مليار دولار، بما فيها 20 مليارا نقدًا ومخزونا ذهبيا بقيمة 15 مليارا. وهذا دون احتساب السحب على المكشوف بالليرة، أي 16 مليار دولار، وهي متبقية وان كانت غير مدرجة في ميزانية المركزي”.
وأوضح ان القطاع المالي والليرة يعانيان من تداعيات الازمة الإقليمية التي يعجز لبنان عن التحرر منها، فضلا عن استهدافهما ولمدة ثلاث سنوات بحملات تشوية منظمة استخدمت كأداة للضغط في الانقسامات الإقليمية.
وعن قطعه بعض مصادر تمويل “حزب الله” بضغط أميركي، قال سلامة ان التعاميم صدرت بمعزل عن أي اعتبار سياسي “لتتماشى والقوانين المعمول بها مع المصارف المراسلة ولابقاء لبنان ضمن منظومة المجتمع المالي الدولي. هذا ضروري للبنانيين التواقين الى الحرية ولشؤون التجارة”. ورأى انه من مصلحة الحكومة التي تعيّن محافظ البنك المركزي، ان تحافظ على انفتاحه على العالم للحفاظ على الاقتصاد اللبناني.
وبالنسبة الى المفاوضات مع صندوق النقد، قال سلامة ان لبنان يرغب في تلك المفاوضات، بما يشمل مصرف لبنان الذي يشارك فيها. “نحن في بداية الحوار، ونأمل ان تسير الأمور بسرعة”. واكد انه مستمر في مهمته “وطالما يريدني الناس، سأستمر في خدمة مصالح لبنان. يجب ألا نفقد الأمل أبدًا”.