لغة الرسائل المتطايرة باتت بمثابة المقود الذي يسوق اللعبة اللبنانية. أصبحَ لكل مسؤول مرصده ومنه يوزع الرسائل في كافة الاتجاهات. في الأعم الأغلب هي رسائل تحدي أو كناية عن إستعراضات لتظهير القدرات أو تصريف فائض القوة، وبما أننا في دولة “مزرعة” حيث لا قيمة للقانون أو حدود للتلاعب به، تصبح كافة الرسائل مباحة ومعرضة للتشريح لفهم الغرض منها.
حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ليس استثناءً ضمن هذه التركيبة. ما زال الرجل يشعر بفائض قوة استمده من الدعم الذي أتاه مؤخراً على مستويين داخلي وخارجي مما أدى إلى كبح شهوات من أراد الاطاحة به. على هذا النحو يتصرف، كأنه ممسك بزمام اللعبة، أو أنه أقوى من الدولة أو ممن يتولى الاشراف على الادارة. في مقامنا هذا أصبحت الضرورات تبيح المحظورات، وبما أن وجود سلامة أضحى ضرورةً لفرقة ليست بقليلة، أباح ذلك كل صنوف المحظورات.
المتعارف عليه أن المسؤولين يُزارون ولا يزورون، هذه القاعدة انتفت في لبنان منذ مدة وقد سادَ العكس على شاكلة الزيارة التي أمّها سلامة إلى دارة السفير السعودي وليد بخاري برفقة نائبه السابق محمد بعاصيري، الرجل نفسه الذي أثار انزعاج الأميركيين عندما تم إخراجه من موقعه ذات أربعاء رغم كل الدعم الذي كيل إليه.
في الشكل، أتت الزيارة في معرض الأزمة المالية، وقد قيل بعدها أنها مرتبطة بقضايا مالية عالقة بين الجانبين اللبناني والسعودي، أو رغبة في استفسار الجانب السعودي عن أموال عائدة إليه ومودعة لدى المركزي، ما يرفضه جناح محسوب على “السراي”، الذي يرى في الأسباب تضخيماً غير موجود، ليرد أسباب الزيارة إلى “رغبة سعودية في استثارة رئاسة الحكومة من خلال القول أن النقاش في القضايا المالية لا يتم معكم أو عبركم بل مع الحاكم مباشرة ومن دون وساطات”. وفي مستوى ثانٍ “تكريم بعاصيري على ما أداه طوال فترة وجوده، وصرف مزيدٍ من الدعم لسلامة للقول أنه غير متروك”.
يقول سلامة في سرّه أنه “مطلق التصرف” فإكتسابه الثقة من فئة وازنة ضمن الدولة أتاحت له حرّية في الحركة على إعتبار أنه مكرّس كجزء من الحل بخلاف رغبة غالبية ساحقة تعتبره سبباً رئيساً في الأزمة. مع ذلك، محدودة قدرة الآخرين على استبداله، ما يفاقم الأمور ويكسب الحاكم مزيداً من العلامات التي يجيرها في سياق التلاعب بالوضع النقدي.
فائض القوة نفسه أتاح للحاكم استدعاء بعاصيري للحضور إلى جواره في اليرزة. لقد شكل حضوره عند السفير السعودي علامة فارقة تكاد تَسلب مضمون المحضر الذي جاء من أجله سلامة، كأنما أرادَ من وراء إستحضار بعاصيري مجدداً اشاحة الأنظار عن أسباب حضور الحاكم إلى دارة السفير وتركيز الاهتمام على الغاية من وراء حضور بعاصيري بالذات!
بدلاً من مناقشة خلفيات زيارة سلامة، غاصَ المتابعون في البحث عن الأسرار التي يخبّئها بعاصيري، ونقل الاستفسارات إلى مستوى البحث عما يستبطنه هذا الظهور ولما يجري تظهيره في هذا الوقت المتزامن مع توجه لدى رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل للاستفادة من خدمات بعاصيري من خلال طرح تعيينه موفداً خاصاً للحكومة للتفاوض مع وزارة الخزانة الاميركية حول إعفاء لبنان من بعض أحكام قانون قيصر.
باسيل يعلم أن طرحاً من هذا القبيل يولد استثارة حساسية الموقعين على طلب إقالة رياض سلامة والمساهمين توازياً في منع التجديد لبعاصيري في مقر الحاكمية وفق أي تخريجة أتت. هذا ما حدثَ بالفعل عندما طرح باسيل “قنبلته” وعندما شاهدَ هؤلاء بعاصيري إلى جانب سلامة في زيارة رسمية إلى دارة السفير السعودي، ساندهم في ذلك حشد من الوزراء الذين بدأوا تحضير ملفاتهم لطرح “قضية الزيارة” على طاولة مجلس الوزراء، ولما لا، إستدعاء سلامة لاستفساره عن الأسباب الموجبة، أو في أقل تقدير تمرير إعتراض يدون في محضر جلسة مجلس الوزراء، منعاً لتكريس أعراف من غير المقبول وجودها.
هذا الجو الاستفزازي قوبل برفض اقتراح باسيل، ولعل رئيس الحكومة حسان دياب الذي ملّ رؤية التجاوزات وأسلوب سلامة المتجاهل لوجود الحكومة إلى حد أن سلامة لم يبلغها بطلبه موعداً من السفير السعودي للقائه، وصلته عبارات رفض مجموعة وزراء أي إقتراح تعيين مماثل.
للحكومة الحق في معرفة ما دار في ذلك الاجتماع، يصبح الحق أكبر متى كان البحث مبنياً على أصول مالية. هنا، سلامة غير مباح التصرف، فوق رأسه إدارة لا بد من استشارتها أو وضعها في صورة أي خطوة، ما يرفضه سلامة على إعتبار أنه “تدخل في شؤون وظيفته”، رغم أن الأسباب الدافعة للقاء السفير بخاري مالية، ولو كانت خاصة لكان يمكن أن تبقى ضمن إطار الخصوصية دون ان تظهر علنياً.
ثمّة من يشعر أن لسلامة مآرب أخرى من وراء الزّج ببعاصيري وسط اللعبة قد تأتي على شاكلة تكريس نائب للحاكم بالممارسة من خارج الأصول. فهو، عندما أخرجته الحكومة من الباب أتى سلامة ليدخله من الشباك مرتكزاً إلى فائض القوة نفسه الذي يكرسه حاكماً بأمره في المركزي، كأنه يسلف “فلتة الشوط” إلى الحلفاء الاميركيين من البوابة السعودية الراعية مثل غيرها لحضور سلامة.
“ليبانون ديبايت” – عبدالله قمح