ليس جديداً التدهور المستمر في ثقة المجتمع الدولي بقدرة لبنان على تنفيذ المطلوب منه، للخروج من الأزمة الماليّة.
التطوّرات المستجدة خلال الأيّام القليلة الماضية توحي بما هو أسوأ بكثير من انهيار مالي. فالمعلومات الواردة من العاصمة الفرنسيّة، تدل على أن فرنسا قررت أخيراً التخلّي عن موقفها المتمايز عن باقي الدول والجهات الدوليّة المانحة، والذي أعطى لبنان أفضليّة واهتماماً خاصاً، بالنظر إلى الروابط الثقافيّة والسياسيّة التاريخيّة بين الدولتين. باختصار، باتت فرنسا على قناعة بأن لبنان غير قادر في ظل التركيبة السياسيّة المسيطرة اليوم، على تنفيذ أي من الإصلاحات التي جرى الحديث عنها في مؤتمر سيدر. ناهيك عن الإجراءات التي سيطلبها منه صندوق النقد، في سياق المفاوضات الجارية للدخول في برنامج معه.
اليأس من الخطّة الماليّة
ليس تفصيلاً أن تبدّل فرنسا اليوم نظرتها إلى الأزمة اللبنانيّة، وهي الدولة التي كانت عرّابة مؤتمر سيدر والدينامو السياسي، الذي أفضى إلى تشكيل حلقة من الداعمين المحتملين ماليّاً. عملياً، كان الفرنسيون قد أعطوا العديد من الإشارات للبنان ليدرك أن الدعم لن يأتي من دون تنفيذ الإصلاحات الجديّة. وهو ما دفعهم سابقاً إلى ربط تقديم أي مساعدة من قبلهم بالدخول ببرنامج مع صندوق النقد، بما فيها قروض وهبات مؤتمر سيدر. وذلك لربط تقديم المساعدات بوجود طرف يملك الموارد والخبرة اللازمة لمراقبة أداء الحكومة اللبنانية بشكل دقيق. لكنّ فرنسا باتت تتحدّث اليوم عن “خيبة أمل” إزاء جميع تطوّرات الملف الاقتصادي اللبناني. ولعل مشاعر اليأس والإحباط التي بدأت تتسرّب إلى وفد صندوق النقد الدولي نفسه خلال الأيام الماضية، عززت من اعتقاد فرنسا بعدم وجود أفق لمساعيها على الساحة اللبنانيّة.
مؤشّرات التعثّر التي أعطاها لبنان كثيرة. لكن أبرزها كانت طريقة مقاربة الخطّة الإصلاحيّة الماليّة، والتي كان يُفترض أن تشكّل البولصة التي ستفاوض على أساسها الحكومة اللبنانيّة جميع الأطراف المانحة. منذ البداية، رصدت جميع الجهات المعنيّة بالملف اللبناني، تسرّع الحكومة في مقاربة هذا الملف بالتحديد. وخصوصاً من خلال إقرار خطّة ماليّة عمل عليها فريق من الإستشاريين من دون محاولة توفيق الأرقام مع مصرف لبنان، المعني الأوّل بتنفيذ هذه الخطّة في المراحل التالية.
الصدمة والانقلاب
لكنّ ما جرى خلال الأيام الماضية في ما يخص هذه الخطّة مثّل صدمة للجميع. وخصوصاً من جهة الإنقلاب الذي جرى في المجلس النيابي على هذه الخطّة وتقييمها للخسائر، ومبادرة اللجنة البرلمانيّة إلى الاجتماع بوفد صندوق النقد وتقديم أرقام جديدة للخسائر تختلف عن أرقام كل من الحكومة ومصرف لبنان، وإن كانت اللجنة أقرب في مقارباتها إلى مصرف لبنان.
علم صندوق النقد هنا، أن ما يجري أكبر من مجرّد تباين في الأرقام. خصوصاً أن اللجنة قلّصت أرقام الخسائر إلى ما دون النصف. ما جرى ببساطة كان الإطاحة بإمكانيّة الدخول في مسار جدّي يصحّح ميزانيّات القطاع المالي، ويعالج مسألة الخسائر المتركمة فيها، ومن قبل لجنة حظي عملها بمباركة جميع كتل المجلس النيابي، الذي يملك وحده صلاحيّة الموافقة على عشرات مشاريع القوانين التي تحتاجها الخطّة لتدخل حيّز التنفيذ.
لعلّ هذه التطوّرات هي تحديداً ما أفضى إلى تصريح مديرة صندوق النقد الشهير، الذي اعتبرت فيه أنه لا يوجد سبب حتى الآن لتوقّع انفراجة للأزمة الاقتصاديّة في لبنان. ومع التدهور في ثقة صندوق النقد بمسقبل مفاوضاته مع لبنان، كان الفرنسيون يدركون أنّ جهودهم المتصلة بالملف اللبناني لن تثمر في شيء في القريب العاجل. مع العلم أن كل ما جرى في ما يخص الخطّة الماليّة، لم يكن سوى القشّة التي قصمت ظهرت البعير، والتي تلت الكثير من المؤشرات التي أظهرت للفرنسيين أن الحكومة لا تملك لا النيّة ولا القدرة على المبادرة باتجاه أبسط الخطوات المطلوبة منها في ظل الانهيار المالي الذي تعيشه البلاد. وعمليّاً، تنوّعت هذه المؤشرات من مقاربات الحكومة الأخيرة في ما يتصل بانهيار سعر الصرف، إلى ملفّات التعيينات الإداريّة والماليّة وتعثّر التعيينات القضائيّة، وصولاً إلى موضوع علاقة لبنان مع المجتمع الدولي، الذي يبدو أن الحكومة لا تملك حتّى الضوء الأخضر لمقاربته بالطريقة الملائمة.
الغيبوبة وما تبقى من دولارات
هذه التطوّرات ستعني أن ملف مؤتمر سيدر سيدخل في حالة من الغيبوبة للمرحلة المقبلة على الأقل، فيما ستبتعد فرنسا عن المشهد، بانتظار حصول تبدّل ما على مستوى القرار السياسي في البلاد. ومن الناحية الأخرى، سيتابع صندوق النقد تنفيذ واجباته البرتوكوليّة تجاه لبنان، عبر اجتماعات التفاوض الدوريّة التي تجري مع الوفد اللبناني. لكن من المستبعد أن تفضي كل هذه الاجتماعات إلى أي نتيجة ملموسة في القريب العاجل.
محليّاً، لا يمكننا سوى أن ننتظر الأسوأ على مستوى الأزمة النقديّة. فشركات تحويل الأموال بالكاد ترفد مصرف لبنان اليوم بنحو 4.5 ملايين دولار يوميّاً من الحوالات الواردة في أحسن تقدير. وهي الدولارات التي يستعملها المصرف المركزي لتوفير السيولة اللازمة للاستيراد، من خلال المنصّة المخصصة لتداول العملات الأجنبيّة. وفي المقابل، تتجاوز حاجة السوق المحليّة الشهريّة للاستيراد بنحو 600 مليون دولار، كما يؤكّد الرئيس السابق للجنة الرقابة على المصارف سمير حمود، أي بمعدّل يومي يبلغ نحو الـ20 مليون دولار. وبذلك، لا يوجد ما يوحي بوجود أي حلول على مستوى الأزمة المعيشيّة الناتجة عن ارتفاع سعر الصرف.
بالمختصر، لم تعد تملك الحكومة أي أوراق يمكن لعبها، مع تصاعد حدة الأزمة النقديّة وفقدان لبنان لأي حاضنة دوليّة يمكن أن تساعده على تجاوز محنته. وهو ما يجعلها أقرب إلى حكومة تصريف أعمال تقوم بالحد الأدنى المطلوب منها، لتسيير أمور البلاد التي تتجه تدريجيّاً نحو الهاوية. ولعلّ ذلك ما دفع وليد جنبلاط، في كلامه المسرّب الأخير، إلى القول بأنّ الأسوأ لم يأتِ بعد، وبأن على اللبنانيين تموين الطحين والمازوت، تمهيداً لمرحلة قد تكون أقسى. قد يكون في ذلك الكثير من التشاؤم فعلاً، لكنّ لا يوجد أي مؤشّر يدل على مستقبل مختلف للأزمة الماليّة اللبنانيّة.
المصدر: المدن