عباس ضاهر
هل هي صدفة أن تُعمم الفوضى في لبنان؟ قبل ستة أشهر من إنطلاق الحراك الشعبي في تشرين الماضي، تحدّث سياسي مستقل في مجالس ضيقة عن قرار غربي صدر لإنهاك “حزب الله” في لبنان. يومها ظنّ محدّثوه أنه يبالغ في الكلام عن فوضى تتدرّج في البلد، وصولاً إلى الإيحاء للرأي العام أن الحزب يتحمّل مسؤولية الأزمة الإقتصادية والمالية. لم تكن مصادفة حينها أن تمتنع قوى وشخصيات رأسمالية عن المضي بصرف أموال كعادتها، لجماعاتها في لبنان، والهدف كان تجفيف السيولة ونسف الدورة الاقتصادية في لبنان وفرض صرخة الشعب، ثم توجيهه ضد “حزب الله”. ولا هي مصادفة أن تتدرّج الضغوط عبر زيادة العقوبات الأميركية وتخويف كل الأثرياء والمقتدرين والمغتربين ولا سيما الشيعة منهم، لمنعهم من تحويل أموال إلى لبنان، وليست ايضاً صدفة أن تحلّ دفعة واحدة ازمات المودعين في المصارف، و تُفرض العقوبات على بنك الجمّال لترهيب المصارف الأخرى. ولا هي صدفة بالطبع أن تمتنع كل الدول الصديقة عن مؤازرة لبنان او وضع ودائع مالية فيه لتحريك السيولة. كلّ تلك المعطيات كانت بمثابة مؤشرات واضحة، رافقتها حملة تتهم “حزب الله” بضرب القطاع المصرفي، وهو ما نفاه الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، مفصّلاً موقف حزبه إزاء هذا القطاع.
الأخطر، أن هناك معلومات تتحدث عن سعي خارجي لضرب البيئة الشيعية التي تتكامل بين حركة “أمل” و”حزب الله”، وهو ثنائي نجح بفضل ترابطه في حماية ساحته من الخرق والطحن. يأتي سيناريو ضرب تلك البيئة الشيعية إستكمالاً للمعركة التي تُشن ضد المقاومة، من أجل تفتيت وحدة تلك الساحة ورميها في مستنقع أزمات داخلية فيما بينها، يشبه او يزيد عن حدة الخلاف السياسي الذي يجري في الساحة الشيعية العراقية حيث تنشغل القوى هناك بصراعاتها وسط مخاطر تتجدد بتحرك الارهابيين. وهو أمر إنتبه إليه رئيس المجلس النيابي نبيه بري، فتصرف كعادته لوأد السيناريو الخطير، ثم تبنى نصرالله ما قاله رئيس حركة “أمل” جملة وتفصيلاً.
هي ليست المحاولة الأولى من نوعها، ولا هو التصرف الردعي الثنائي الفريد من نوعه ايضاً. سبقت ذلك صولات من الحملات، وجولات من الردع. لكن المعلومات تتحدث عن أن ما قاله بري ونصرالله في اليومين الماضيين يستند إلى معطيات ملموسة خطيرة:
أولاً، هناك خطاب شعبوي عند بعض النخبويين الشيعة ينطلق من المأساة الإقتصادية التي يعاني منها البلد، لإتخاذها ذريعة في توجيه الاتهامات شمالاً ويميناً، خصوصا ان بعض هؤلاء النخبويين يطمحون للعب أدوار سياسية مقبلة.
ثانياً، تتصرف بعض الشخصيات من خلال خلفياتها وخلافاتها ومصالحها الشخصية، كأن يقوم حزبي او حركي سابق أو فرد على خلاف مع أحد الفريقين، بإستغلال المرحلة الحالية لإستيلاد خلاف بين الجمهورين يخدمه وحده لا غير.
ثالثاً، يزداد التفلت على وسائل التواصل الإجتماعي التي باتت منصّات للتهجم والتسرّع في إطلاق المواقف وعدم دراسة الخطوات وتداعيات أي كلمة وتغريدة، خصوصا أن بعض مستخدمي وسائل التواصل يقعون ضحايا تحريض مشبوه منظّم في حسابات وهمية في معظم الأحيان، ضد الحركة او الحزب او الاثنين معاً.
رابعاً، تعمل مؤسسات إعلامية وصحافيون على إيجاد شرخ في الجسم الشيعي، من خلال التصويب على أحد ركائزه، كأن تزداد وتتوسع الحملة على رئيس المجلس النيابي، وإتهام حلفائه بالتخلي عنه، والقصد هو الحزب.
خامساً، لم تكن عملية التعاطي الإعلامي مع موضوع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الاّ في إطار خلق شرخ كبير بين حركة “أمل” و”حزب الله”، لفرض فراق بين جمهوري الفريقين.
سادساً، تتواصل عمليات الإفتراء في خطابات وممارسات سياسية واعلامية، بحق الحزب تارة، وبحق الحركة تارة أخرى، في مشهد يحاكي سيناريو الإستفراد لكل منهما ضمن السيناريو المشار اليه.
سابعاً، تواصلت الضغوطات الخارجية على الجسم الشيعي تحت عنوان “حزب الله” في بلاد الإنتشار، وكان آخر محطاتها في ألمانيا منذ أيام.
أمام تلك المعطيات، يبدو ان المشروع ضد الحزب يكمل طريقه، عبر وسائل عدّة، يُشكل ضرب البيئة الشيعية أحد ركائزها. لذا، فإن القاعدة الني تتصرف على اساسها القيادتين: متى ضعُفت الحركة ضَعُف الحزب، ومتى ضَعُف الحزب ضَعُفت الحركة. لماذا؟
يُعتبر نبيه بري الرمز السياسي الشيعي الوطني العروبي، المستند الى تاريخ وحاضر مجيد، عند الشيعة تحديداً والعرب عموماً. هو بالنسبة الى الشيعة ليس رئيساً للمجلس النيابي اللبناني فحسب، بل أحد رموز الطائفة على مستوى الإقليم والعالم الذي ثبّت معادلات في الحرب والسلم، ورسّخ مفهوم المقاومة ضد إسرائيل في التنمية والتحرير، ولعب الدور الأبرز في جمع اللبنانيين على طاولة الحوار، وقرّب المسافات السنية الشيعية منعاً للفتنة، واستطاع ان يحمل مشعل الإمام موسى الصدر بأمانة، ليبقيه مشعّاً.
يفتخر الشيعة به كرمز ينال إعجاب المراجع الدينية في قم والنجف، ويتحدث عنه العرب كسياسي وبرلماني لامع عرفوه رئيساً لإتحاداتهم البرلمانية العربية والاسلامية، رغم انحيازه الى سوريا بشكل دائم، فلم يحضر مؤتمراً برلمانياً لم تُدعَ إليه دمشق، ولم يوافق على قرار يعارض مصلحة سوريا.
مارس بري دور المُدافع الأول عن “حزب الله” منذ سنوات طويلة، ولعب دوره الطبيعي في دفن أي مشروع يستهدف الحزب. يرى المراقبون ان بري تميّز بأداء وطني في التفاوض الدولي، لحفظ المقاومة سلاحاً وتنظيماً، وحماية الحدود الوطنية والثروات الطبيعية. وعندما فشلت عواصم في إقناع بري بوقائع مغايرة لاستراتيجيته، إزدادت الحملات عليه، ليس لنزع الزعامة منه التي إكتسبها بفعل تأييد جماهيري يبدأ من جسم الحركة الصلب، بل إن استهدافه هو ممر إجباري لطحن الجسم الشيعي وبالتالي التخلص من “حزب الله”. مما يعني وفق هذا المنظور أن التصويب على حركة “أمل” ورئيسها هو طريق طبيعي لنسف “حزب الله”.
ايضاً، فإن الحزب هو الجسم الصلب في مواجهة الإسرائيليين والارهابيين، وهو دعامة أساسية من دعائم “محور المقاومة” الذي بات وجوده عامل طمأنة ميداني وسياسي من العراق الى سوريا ولبنان. لم ينته مشروع الإرهاب بدليل هجمات سامراء في اليومين الماضيين. لا يزال “داعش” موجوداً في ملاذاته الآمنة. اما اسرائيل، فالعدوانية تزداد عندها ضد المحور المذكور، بدليل الهجمات والطلعات الجوية ومحاولة ابتلاع حقوق لبنانية من ثروات طبيعية واراض في الجنوب. لن يرتاح اللبنانيون من عدوانية اسرائيل التي تسعى الى فرض التوطين. ولنفترض ان الضعف اصاب الحزب، فمن يمنع التوطين؟ ما هي عناصر القوة المتبقية؟ ومن اراد دمج النازحين ابدياً بالمجتمع اللبناني. ما هي موانعه ايضاً؟ كلها عناوين إستراتيجية تحتاج الى رفض للفرض، لا يمكن تحقيقه من دون عنصر قوة تؤمنه المقاومة.
لا، لم تنته المعارك ضد لبنان. لا بل هي اصبحت اكثر شدّة بدخول العامل الإقتصادي لترهيب اللبنانيين وفرض الشروط عليهم من اليوم وحتى العام ٢٠٣٥ بالحد الأدنى.
يصبح الوعي هو الأساس، ليس لمنع اي ضرب لبيئة معينة فحسب، بل لإجهاض أي استهداف لأي مكون لبناني. وحده الغاء الطائفية السياسية وترسيخ دولة مدنية، يؤمن العدالة الاجتماعية ويشكل المدماك الصحيح لمحاربة الفساد. ومن دون ذلك سيبقى لبنان في دوامة الاتهامات ووجهات النظر والتباينات التي تسمح للتدخلات ان تطل على البلد. ما يجري الان نموذج حي.