لم تعد «التحويلات المصرفية» هي العائق الأساس في آلية عمل أصحاب المصانع وشركات التصنيع، زاد فيروس «كورونا» الطين بلّة، بعدما زاد الطلب على مواد التعقيم والتنظيف. في ظل هذا الطلب الكبير، يجد أصحاب المصانع أنفسهم أمام أزمة شحّ في المواد الخام المنتجة لتلك المواد، بسبب التهافت عليها عالمياً، ما أدى إلى انقطاع بعضها وغلاء سعر البعض الآخر أضعافاً مضاعفة
مذ أعلنت وزارة الصحة العامة عن أول إصابة بفيروس «كورونا»، تغيّرت عادات الناس الشرائية. الهلع من مضاعفات الفيروس انقلب هوساً ترجم بالتهافت على شراء المعقمات ومواد التنظيف. ووصل الحال لدى البعض إلى حدّ تخزين تلك المنتجات التي صارت مادة أساسية اليوم.
ولّدت هذه «الطفرة» الاستهلاكية تراجعاً في كمية بعض المواد المعقّمة والمنظفة، وانقطاعاً في بعض آخر. وبدأت تفرغ رفوف كثيرة في الاستهلاكيات الكبرى، كما في الصيدليات، من منتجاتها، ما ينذر، مع الوقت، بتصاعد أزمة في هذا «القطاع» والعاملين فيه، كان بعض ملامحها قد بدأ بالفعل مع عجز بعض المصانع عن إنتاج هذه المواد. أما السبب؟ فهو شحّ المواد الخام (الأولية) التي تستخدم في تصنيع المعقّمات والمنظفات. ولئن كانت أزمة استيراد المواد الخام ليست طارئة، إلا أن التهافت على شراء معدّات الوقاية سرّع في فرضية «انهيار» هذا القطاع. ورغم أن «الكورونا» السبب المباشر لما يجري اليوم، إلا أنه «لا يمكن اعتبار الأزمة مستجدة»، بحسب فادي فياض، المدير العام لشركة «سانيتا بيرسونا».
إذ تعود «جذور» الأزمة إلى ما قبل أشهر مع مشكلة التحويلات المصرفية. اليوم، «زادت مشاكل الكورونا إلى مشاكل ما قبل الكورونا». في الشق الأول، يستفيض فياض في شرح الأزمة التي يواجهها أصحاب المصانع والمستوردون منذ نحو خمسة أشهر، والتي تتعلق بصعوبة تحويل الأموال عبر المصارف لشراء المواد الخام التي تدخل في «معظم دورة تصنيع منتجات التعقيم والتنظيف وغيرها». بسبب ذلك، يضطر التجار إلى شراء الدولار من الصرافين أو من السوق السوداء لاستيراد ما يحتاجون إليه. في مواجهة تلك المشكلة، «كنا نتّكل على التصدير إلى الخارج لتحصيل بعض الدولارات لنستخدمها في ما بعد لشراء المواد الأولية التي نحتاج إليها في صناعاتنا»، بحسب فياض. أما اليوم، مع «كورونا»، فقد تضاعفت الأزمة: شحّ في الدولارات وفي تحصيل المواد الخام بسبب التهافت عليها عالمياً، ما تسبّب في نقصها، وحتى في حال توافرها، فقد أصبحت أسعارها مضاعفة.
هكذا، ضاعف الوباء من شكوى معظم التجار وأصحاب المصانع، خصوصاً أن «جزءاً كبيراً من المواد الخام التي نستخدمها مستورد، وفي بعض الصناعات هي بحدود 90%»، يقول علي بيضون، أحد المستوردين. يعدّد بعض تلك المواد، ومنها «حبيبات البلاستيك التي تستخدم في تصنيع العبوات، ومواد الإيتانول والكوركوبوليول وديكلوروفينول والمواد الكحولية، وغيرها التي تستخدم في تصنيع المادة المعقّمة». وضاعف هذه الأزمة «التهافت العالمي عليها وإقفال أسواق الصين التي تعدّ المورّد الأكبر». أدى ذلك إلى «نقص حاد، خصوصاً أننا استهلكنا معظم ما كان موجوداً في الستوك خلال الأزمة السابقة». من هنا، بدأ التفتيش عن خيارات «كأن نشتري من التجار المواد التي لا يحتاجون إليها أو التفتيش عن أسواق جديدة مثل تركيا وسوريا». هنا أيضاً «نواجه مشكلة. فالتجار في سوريا لم يعودوا يعطوننا ما نحتاج إليه، وتركيا تواجه طلباً كبيراً، ولم تعد تلبي معظم حاجاتنا»، يقول علي مزهر، وهو تاجر يعمل «في تصنيع أغطية العبوات». تضاءلت الخيارات أمامهم، حتى «استراح» بعض منهم بعدما باع ما عنده، منتظراً ما ستؤول إليه الأوضاع. هكذا فعل مزهر مؤخراً، بعدما استنفد كل الخيارات «حتى مع فتح أسواق الصين، خصوصاً أن أسعار المواد الخام التي نستوردها زادت بنسبة 60%، أضف إلى أن ما نطلبه اليوم مؤجل تسليمه حتى حزيران».
صحيح أن الأزمة طالت كل العاملين في القطاع، إلا أن المصانع والمؤسسات الصغيرة كانت الأشد ضرراً، لكونها تشتري المواد من التجار ولا تستوردها. أول تغيير طرأ على عمل هؤلاء غلاء أسعار المواد الخام «أضعافاً مضاعفة»، يقول سميح المولى، صاحب مصنع «فيتال سبرينغ». فقبل حلول «الأزمتين»، كان المولى يشتري «كيلو الكلور الخام بـ60 سنتاً، أما اليوم فإن وجد، بات سعره 12 ألف ليرة، وكذلك الحال بالنسبة إلى السبيرتو الذي قفز سعره اليوم إلى 6 دولارات بعد أن كان أقل من دولارين، وغيرهما من المواد». كما «اننا، بصعوبة بالغة، نحصّل بعض تلك المواد كي لا ننقطع عن التصنيع والإنتاج». مع ذلك، انقطعت لدى البعض الآخر سبل تحصيل بعض المواد، ومنها «مادة الديكلوروفينول التي نستخدمها لتصنيع الديتول، فهذه المادة أساسية ولم نعد نجدها لدى التجار»، يقول فيكتور المعلوف، صاحب مصنع «كويك». كان المعلوف ينتج 20 صنفاً من المعقمات والمنظفات، في مقدمها «الديتول الذي كنا نوزعه على الجيش وقوى الأمن الداخلي»، أما الآن «فننتج مما هو موجود لدينا».
اليوم، «تعيش الصناعة ظروفاً استثنائية لم نعهدها حتى في عزّ الأحداث اللبنانية». هذا ما يقوله فياض الذي يبدو أكثر تشاؤماً، «إذا ما بقيت الأمور رايحة نحو الأسوأ عالمياً». عندها، «سيتوقف حكماً بعض المنتجات بسبب اعتماده على مواد أولية مستوردة»، ومنها مثلاً «المواد الفعالة التي تأتي فقط من الخارج. وهنا، لا مكان بعد للمزح».
ما يطلبه هؤلاء اليوم تدخّل الدولة، وخصوصاً وزارة الصناعة، في ما يخص إعطاء الأولوية للمواد الخام التي تدخل في إنتاج المواد المعقمة والمنظفات. وكانت وزارة الصناعة قد أعلنت قبل فترة عن موافقة مصرف لبنان على تأمين سيولة من أموال الصناعيين بقيمة 100 مليون دولار أميركي لشراء المواد الأولية الضرورية للإنتاج من الخارج. غير أن هذا الوعد لم يترجم بعد بـ«آلية» للسماح بوضع هذه الخطوة موضع التنفيذ. وكان وزير الصناعة، عماد حب الله، وضع في مقدمة أولوياته أمس طرح مسألة المواد الخام للصناعات المحلية، ومنها ما لها علاقة بالمواد المعقمة. وقد أرجئ البحث فيها إلى جلسة مجلس الوزراء غداً، لطرح كل ما له علاقة بالمواد الخام للمعقمات والمستلزمات الطبية.
راجانا حمية – الاخبار