كتبت زيزي إسطفان في “الراي” الكويتية:
غالباً ما يشكل أساتذة الجامعات «النخبةَ الاجتماعية»، لِما ينطوي عليه دورهم في إعداد الجيل الجديد وإغناء عالم الأبحاث وإرساء قِيَم المعرفة وما شابه من مهام تساهم في صوغ «الرأي العام» وقيادته.
وكان لبنان، الذي قيل إنه صدّر الحرف يوماً، في طليعة الدول التي تفاخر بـ «أساتذتها» ومهاراتهم وما يتمتعون به من كفاءات مكّنتْهم من تصدير «الأدمغة» التي سجّلت «فتوحاتٍ» في شتى الميادين العالمية والتربوية.
الأساتذة الجامعيون اليوم، ولا سيما في الجامعة اللبنانية (الرسمية) يعانون الأمرّيْن بعدما إلتهم الدولار رواتبهم وأطاح الإنهيارُ المالي بتعويضاتهم وتبخّرت مدخراتهم جراء أزمة المصارف، وها هم «يصرخون» من شدة ما حلّ بهم.
ها هي الصورة تنقلب من أبيض إلى أسود في مكانةِ أستاذ «اللبنانية» وواقعه.
فـ «المجدُ» الثقافي – التربوي وصروحه التعليمية في «انتكاسةِ» غير مسبوقة، وحامِلُ الشعلة أنطفأ النورُ بين يديه بعدما تكاتفتْ عليه الأزمات، وراتبه صار بلا قيمة رغم قراراتٍ اتخذتْها الحكومة قبل أيام وبينها إقرار بدَل إنتاجية للأساتذة والعاملين في الجامعة اللبنانية، وتحويل عقود المصالحة للمدرّبين الى عقود نظامية وكذلك عقود الأساتذة المتعاقدين في الساعة.
التقاعد المُر
في بيْته الفسيح، يجلس الدكتور رياض خلف مكتبه واجماً مستسلماً يملأ فراغ أيامه بالحساباتِ التي احتلّتْ أولويةَ إنشغالاته إلى جانب بعض القراءة والكتابة الأكاديمية. يَحْسب مصاريف البيت الكثيرة، وكلّها مستجدة، ويحاول أن يحتسب المبلغ الشهري الذي عليه أن يسحبه من المصرف ليسدّدها.
يقتصد أشد الاقتصاد لا بخلاً أو تقطيراً، لكن لسببٍ آخَر أشد ظلماً وإيلاماً، فتعويض نهاية الخدمة الذي حصل عليه كأستاذ جامعي وكان يعوّل عليه لتمضية بقية أيامه بكرامةٍ وراحةٍ، خسر أكثر من 90 في المئة من قيمته وبات لا يساوي شيئاً نتيجة إنهيار العملة اللبنانية.
ما درسه لسنوات طوال وجدّ في بحثه لتحقيق درجة الدكتوراه، وما شقي من أجله أثناء سنوات التدريس المديدة طارَ بلمْح البصر وتركه محبَطاً متعَباً يناضل يومياً مع حساباته حتى يحفظ كرامته ويُبْقي رأسَه مرفوعاً فلا يطالبه أحد بديْن ولا يحتاج لمساعدةٍ من أحد.
قد لا تبدو القصةُ واقعيةً فهي قصة أستاذ جامعي لطالما كان يُعَدّ «نخبوياً» في المجتمع، مالياً وفكرياً وإجتماعياً. لكن الأحوال تبدّلت وانحدر أساتذةُ الجامعات الذين كانوا يوماً قادةَ رأي وحاملي رايةَ العِلم والتقدّم نحو أوضاع مالية لا يُحسدون عليها بعد إنهيار العملة الوطنية التي هي أساس رواتبهم.
فمنذ فترة ضجّ لبنان بخبر إعلان أستاذ جامعي تخلّيه عن دوره «الريادي» وتحوّله ناطوراً لأحد المباني التي تؤمّن له مسكناً وكهرباء مجاناً وتَدفع له بالدولار الفريش. خبرٌ أثار زوبعةً واسعة من «التنديد» بما حلّ بالأسرة التعليمية في بلاد الإشعاع، لكنها زوبعةٌ «خاطفة» سرعان ما إنطفأتْ كحال كل المآسي في لبنان حين يَخفت صوت الإعلام وتذهب العدسات إلى كوابيس أخرى، لتبقى المعاناة جمرةً في نفوس أصحابها فقط.
الليرة والكرامة
قصصٌ مؤلمة يرفضها بعض الأساتذة الجامعيين من دون أن ينكروا صعوبةَ الواقع الذي يعيشه هؤلاء. الدكتور نزيه بو شاهين مؤسس ومدير متقاعد للمركز الوطني لجودة الغذاء والدواء في الجامعة اللبنانية وعضو مجلس إدارة صندوق التعاضد فيها يقول لـ «الراي»: «لا شك أن وضع أساتذة الجامعة اللبنانية المالي كان أفضل بكثير سابقاً حيث كانت رواتبهم تعادل 4000 دولار وتصل إلى 5000 فيما باتت اليوم لا تتخطى 150 دولاراً بحيث باتت تكلفة المعيشة عبئاً ثقيلاً على كاهلهم. ولم يكن الراتب وحدَه ضمانةً للأستاذ الجامعي بل كانت هناك تقديمات إجتماعية شتى تضمن له حياة كريمة ومستوى معيشياً لائقاً جداً. ومنها تأمين يغطي 90 في المئة من تكلفة الإستشفاء ونسبة عالية من الفحوص الطبية مع التكفّل بدفع ثمن الأدوية مباشرة، إضافة إلى مِنح تعليم للأولاد ومساعدات إجتماعية. هذه التقديمات اليوم رغم سريان مفعولها إلا أنها ما زالت تُحتسب بالليرة اللبنانية على القيمة الرسمية للدولار أي أنها لم تعد تساوي شيئاً وثمة تفكير اليوم بزيادة التقديمات ثلاثة أضعاف، لكن تبقى هناك هوة بين قيمتها وقيمة الكلفة الفعلية على الأرض للخدمات الطبية والتعليمية وغيرها ما يترك الأستاذ في مهب الريح».
لا ينكر بو شاهين أن «الأساتذة الذين تقع على عاتقهم مسؤوليات معيشية كبرى، من المتعاقدين وليس المتفرغين أو المنتسبين إلى ملاك الجامعة، يفتشون عن عمل آخَر إما داخل لبنان أو خارجه. وكثر هاجروا، وبعضهم إنتقل إلى الجامعات الخاصة، ولكن قلّة هم من إنتقلوا الى أعمال أخرى رغم كل ما يشاع. فللأستاذ كرامته ويصعب عليه الإنتقال إلى أعمال لا تليق به رغم صعوبة وضعه، كما أن عمله مطلوب جداً. وأساتذة الجامعة اللبنانية رغم كل ما يعانونه، ما زالوا يعطون من قلبهم ويحاولون عدم كسر مستوى الجامعة التي تقدّمت في تصنيفها عالمياً وخصوصاً في كلياتها التطبيقية. يَعتبرون أنفسهم جزءاً من هذا النسيج الوطني الذي يعاني بكل أطيافه ويحملون على عاتقهم مسؤوليةً وطنية هي مسؤولية 80000 طالب، ولذا تراهم يجاهدون للبقاء في مناصبهم أملاً بتحسن الأوضاع».
يدرك أساتذة الجامعة اللبنانية جيداً انهم في المدى المنظور لن يعودوا إلى مستواهم السابق حتى ولو أُقرت زيادة على الرواتب. هم كباقي موظفي الفئتين الثالثة والثانية في الدولة اللبنانية ومثل القضاة ينتظرون الفرَج ويكافحون لإبقاء هذا الصرح التعليمي الكبير قائماً رغم كل ما يواجهه من مشاكل.
لكن مشاكل أساتذة الجامعات لا تقف عند حد الرواتب.
ويقول الدكتور علي، وهو أستاذ في كلية العلوم في الجامعة اللبنانية إن «المشكلة ليست هنا فقط بل في تجهيزات المختبرات والمعدات التي يستخدمها الأستاذ ليتمكن من تدريس طلابه المواد التطبيقية. هذه كلها باتت كلفتها بالدولار ولم تعد الجامعة قادرة على تأمين غالبيتها، ولذا صار التدريس صعباً ومتعِباً ومحبِطاً، وقد يضطر الأستاذ أحياناً للدفع من جيبه الخاص للحصول على بعض اللوازم الضرورية. ميزانية الجامعة اليوم لا تكفي للورق والحبر والمازوت هذا عدا عن كلفة الوصول إلى مقر الكليات التي باتت عبئاً على أكتاف الأساتذة والطلاب على حد سواء، ما جعل الكثير من الأساتذة يلجؤون إلى ما يعرف بسنة «الإستدعاء» أي الإبتعاد عن التدريس لمدة عام كامل دون الحصول على راتب، ليوفّروا بذلك على أنفسهم كلفة التنقل التي باتت أعلى من الراتب. أما الأبحاث الجامعية، وهي حجَر الأساس في التقدم العلمي والجامعي، فقد تأثرت بدورها كون كلفتها باتت في غير قدرة الجامعة على تَحَمُّلها. وما صورة أحد الأساتذة التي إنتشرت على مواقع التواصل وهو يعطي درسه على ضوء هاتفه سوى مثال صارخ على ما آل إليه وضع الجامعات وأساتذتها في لبنان».
… فتِّش عن القِيَم
الجامعات الخاصة وضْعها مختلفٌ عن الجامعة اللبنانية التي يَفرض عليها واقعها التعامل بالليرة اللبنانية كونها إدارة رسمية. وأساتذة الخاصة أوفر حظاً من أساتذة اللبنانية إذ ما زالوا يحافظون على مستوى مالي مقبول كونهم ينالون جزءاً من رواتبهم بالعملة الصعبة بعدما فرضت الجامعات الخاصة على طلابها تسديد أقساطهم بالدولار أو أقامت توأمة مع جامعات أجنبية بهدف تبادل الخبرات والمساعدات.
وقد باتت هذه الجامعات أشبه ببرّ الأمان الذي يلجأ إليه العديد من أساتذة الجامعة اللبنانية لتأمين لقمة عيش كريمة.
وتروي الدكتورة غريس كيف أنها تقسم وقتها بين ساعات التدريس في الجامعة اللبنانية وفي إحدى الجامعات الخاصة، وتعمد إلى السفر مرة كل شهر إلى بلد عربي لتدرّس في إحدى جامعاته وهذا ما يؤمّن لها مردوداً كافياً يمكنها أن تعيش وعائلتها منه بعدما مرّت بفترة تقشّف صعبة مع إشتداد الأزمة في العام 2020 ومنْع السفر إلى الخارج جراء كورونا: «كان حلمي التدريس في الجامعة اللبنانية التي كانت مثالاً أعلى لنا كحائزين على شهادة الدكتوراه بما تمثّله من قيمة مادية ومعنوية، لكن الحلم إصطدم بعراقيل مالية أجبرتْني على الإلتفات إلى خيارات أخرى».
ويقول الدكتور أسامة إن الأستاذ الجامعي يرفض العمل في غير مجال التدريس، هو الذي تعب للوصول إلى هذا المركز، لكن النظرة إلى الأستاذ الجامعي إختلفت اليوم، فهو لم يعد من قادة الرأي «فقد صار هذا الدور محصوراً بالسياسيين فقط وبعض الإعلاميين، أما الأساتذة فانكفأوا سواء في ما يختص بدورهم الإجتماعي أو مستواهم المادي. فالمجتمع تغيّر وتغيّرت معه القِيَم وما عاد الأستاذ يؤدي إلا دورَه الأكاديمي».
بحسرة تصف أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية تَبَدُّل الأحوال بين ما كان يحصل عليه الأستاذ الجامعي من تقديمات راقية جداً كانت تساهم في جعله يعيش في أرقى مستوى حياتي، وبين ما يواجهه اليوم من صعوبات حياتية لكنها تفاخر بأن الأستاذ الجامعي اللبناني ما زال من بين الأفضل في المحيط ويستطيع أن يثبت كفاءته أينما وجد.
ثمة حكايات من الزمن الغابر تروي كيف صدّر ما يُعرف اليوم بـ «لبنان» الحرفَ إلى أرجاء المعمورة.
وثمة حكاياتٌ معاشة اليوم عن براعة اللبناني وإبداعه في عوالم الدنيا وميادينها، غير أن كل هذا «التفوق» لا يضاهي شطارة المنظومة السياسية والمالية في تجويع اللبنانيين وإقتيادهم إلى واقع جهنمي وجعل «الرواد» من الأساتذة وسواهم من صنّاع الأجيال أشبه بـ «متسولين» يتوسلون راتباً يسدّ رمقهم ويحفظ كرامتهم.