المقدمة
في الذكرى السنوية السابعة والأربعين لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، نستحضر مشروعه الوطني والاجتماعي والسياسي الذي شكّل نموذجًا فاعلًا لبناء دولة مدنية حديثة في لبنان. خطاباته، كتاباته، وممارساته العملية لم تكن مجرد أفكار نظرية، بل أسسًا لرؤية واضحة لوطن جامع لكل أبنائه. شعار هذا العام: “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”، ليس صيغة شعاراتية، بل برنامج عملي يعكس فكر الصدر العميق ورؤيته للدولة الحديثة.
تهدف هذه الدراسة إلى إبراز الأسس التي وضعها الإمام لبناء دولة تحترم التنوع، تحمي الحريات، وتعزز المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية، بما يمهد الطريق نحو وطن قائم على المواطنة المتساوية وكرامة الإنسان.
إشكالية البحث
تظل المواطنة في ظل التعددية أحد أبرز التحديات في المجتمعات العربية، واللبنانية خصوصًا.
السؤال المركزي الذي طرحه الإمام الصدر منذ ستينيات القرن الماضي وما زال راهنًا اليوم:
• كيف يمكن صياغة مفهوم للمواطنة يتجاوز الطائفية ويحتضن التعددية؟
• وهل يشكّل هذا المفهوم مدخلاً لبناء دولة حديثة تشمل جميع المواطنين؟
الإجابة تتطلب قراءة عميقة لخطاب الإمام الصدر، وربط عناصر الوحدة الوطنية، التوازن السياسي–الطائفي، والعدالة الاجتماعية، ضمن سياق تاريخي يوضح كيف يمكن للتنوع اللبناني أن يصبح قوة وحدة لا سبب انقسام.
منهجية البحث
اعتمدت الدراسة المنهج التحليلي–التاريخي من خلال ثلاثة محاور رئيسة:
- تحليل نصوص وخطب الإمام الصدر المتعلقة بالمواطنة والوحدة الوطنية، ومراجعة مواقفه من الطائفية وتعددية المجتمع.
- رصد المبادرات العملية التي قام بها لترسيخ الوحدة الوطنية، وتقييم أثرها في بناء قاعدة ثقافية وسياسية تقبل التعايش والتعاون.
- إبراز رؤيته التي تتجاوز النماذج التقليدية في التنظيم السياسي والاجتماعي، وتقوم على المواطنة الحقيقية والعدالة الاجتماعية بدلًا من الإقصاء أو المحاصصة الطائفية.
التحليل
أولًا: مفهوم المواطنة
• في الفلسفة اليونانية، ارتبطت المواطنة بـ Polis، حيث كانت المشاركة شرطًا لممارسة الحقوق المدنية والسياسية.
• في الإسلام، جسدت وثيقة المدينة أول عقد اجتماعي يساوي بين مكونات المجتمع على أساس المواطنة والعدالة والتعايش، ما يبرز قدرة الدين على جمع المجتمع لا تقسيمه.
• في المسيحية، تُفهم المواطنة كمسؤولية أخلاقية وروحية تجاه المجتمع، تشمل احترام القانون، وتعزيز العدالة، وخدمة الصالح العام مع التأكيد على كرامة الإنسان وحقه في المشاركة الفاعلة.
• في الفلسفة الحديثة، يقدم جان جاك روسو نظرية العقد الاجتماعي التي تربط الفرد بالدولة، وتؤكد على التوازن بين الحقوق والواجبات، مع حماية الدولة لكرامة المواطن وحرياته.
الإمام موسى الصدر استلهم هذه الأسس ووضعها في السياق اللبناني. بالنسبة له، المواطنة هي تعايش مثمر بين المكونات المختلفة، ولبنان ليس مجرد كيان سياسي، بل رسالة حضارية تستند إلى المساواة والشراكة والتكامل بين المسلمين والمسيحيين وبقية المكونات. الوحدة الوطنية، وفقًا له، تتحقق لا بانعدام التعددية، بل باحتضانها كرافعة للنهوض الوطني.
ثانيًا: المواطنة والتعددية في فكر الإمام الصدر
• الطائفية نقمة، والطوائف نعمة، هكذا يوضّح الإمام الصدر. الانتماءات الدينية ليست موانع، بل فرص للتلاقي والتعاون الوطني.
• غياب المواطنة الموحدة يؤدي إلى التطرف والانغلاق، ويفتح فراغًا سياسيًا واقتصاديًا خطيرًا.
• كما يرى الباحث محمد محفوظ: كل محاولات الوحدة التي تغفل التعددية مصيرها الفشل. الوحدة الحقيقية تُبنى على احترام التنوع وحقوق الجميع بمساواة.
بهذه الرؤية، تصبح المواطنة محور العملية السياسية، إطارًا يحافظ على الهوية الوطنية ويضمن المشاركة الفاعلة لكل المكونات دون إقصاء.
ثالثًا: مرتكزات بناء الدولة الحديثة عند الإمام الصدر
- الوحدة الوطنية عبر الحوار الإسلامي–المسيحي
o الإسلام والمسيحية متكاملان في القيم والرسالة، ويؤكد الصدر أن المحبة والعدالة والحرية أسس مشتركة للدولة الحديثة.
o تأسيس لجنة الحوار الإسلامي–المسيحي عام 1965 خطوة عملية نحو تحويل التنافس السياسي إلى تعاون يخدم المصلحة الوطنية.
o المبادرات العملية تحوّل الاختلافات إلى فرص لإنتاج سياسات عادلة وتلبية احتياجات المواطنين. - الوحدة الوطنية والتوازن السياسي–الطائفي
o رفض أي امتياز لطائفة على أخرى، مؤكّدًا مساواة الحقوق والواجبات، لمنع الاستئثار أو الطغيان.
o هذا التوازن يعزز شرعية النظام ويقلل من الانقسامات، ويشجع على الاعتماد على المؤسسات الوطنية بدل الانتماءات الدينية في تحديد الهوية السياسية. - الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية
o الحرمان ليس مجرد مشكلة اقتصادية، بل “حرمان مركّب” يجمع أبعادًا مناطقية وطائفية.
o حركة المحرومين (1973) سعت لتحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، لتكون صوتًا سياسياً واجتماعيًا للمهمشين.
o التقاء العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص هو الأساس الحقيقي لوحدة لبنان، وضمان المشاركة العادلة في الحياة السياسية والاقتصادية.
الخاتمة
رغم التحديات، يظل فكر الإمام موسى الصدر منارة لإعادة بناء الدولة الحديثة. لبنان الذي تصوره الصدر هو وطن حضاري، ديني وثقافي، مشروع وطني جامع يفتح آفاق التطور ضمن التعددية.
خطوات عملية لتحقيق هذا المشروع تشمل:
- إقرار قانون انتخابي عصري يضمن تمثيلًا متوازنًا لكل المكونات.
- تعزيز استقلالية القضاء لضمان العدالة وحماية الحقوق.
- تطبيق اللامركزية الإدارية لتحقيق توزيع عادل للثروة والموارد.
- تنمية مناطقية متوازنة لتقليل الفوارق وتعزيز التضامن الوطني.
- مكافحة الفساد وحماية حقوق الإنسان كشرط أساسي لصون الديمقراطية وبناء الثقة بين المواطن والدولة.
لبنان الذي تصوره الإمام الصدر ليس وطنًا للطوائف فحسب، بل وطنًا نهائيا لجميع أبنائه، يُعد مثالًا حضاريًا على بناء الدولة الحديثة من خلال المواطنة الفعلية، والعدالة الاجتماعية، والتعاون بين جميع مكوّناته.
✍️ الأب جان يونس
المرسل اللبناني الماروني
المراجع
- أرسطو، السياسة، ترجمة أحمد لطفي السيد، القاهرة: دار المعارف، 1947.
- ابن هشام، السيرة النبوية، ج1، بيروت: دار المعرفة، 1985.
- جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، ترجمة عادل زعيتر، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة، 1954.
- الإمام موسى الصدر، «الطائفية والطوائف»، محاضرة في بيروت، 1970.
- محمد محفوظ، رؤية الإمام الصدر للوحدة والتعددية، بيروت: المركز الإسلامي الثقافي، 2008.
- نص البيان الصادر عن «الندوة اللبنانية» بتاريخ 8 تموز 1965، أرشيف مجلة الندوة.
- الإمام موسى الصدر، خطاب في صور، 1974.