الضجيج السياسي حول الطائرة الإيرانية التي نقلت ليل 20 ــــ 21 شباط الماضي ما قيل إنها «أول حالة إصابة بكورونا في لبنان»، ربما يكون مفيداً لبعض القوى السياسية. لكن اعتباره حقيقة هو بلا شك مكلف من الناحية الصحية. فخلف الحديث عن أن إيران هي المَصدَر الأول لـ«كورونا» في لبنان، «اختبأت» معلومات تؤكد أن «كوفيد 19» وصل الى بيروت قبلَ الطائرة الإيرانية. البحث عن مصدر العدوى لا يزال قيد التقصي، والحقيقة موجودة في عهدة الآباء اليسوعيين الذين تاخروا في الإعلان عما يجري في ديرَي بيروت وبكفيافي ٢١ شباط الماضي، أُعلِن عن تسجيل أول إصابة مؤكدة في لبنان بفيروس «كورونا»، بعد ١٢ ساعة من الفحوصات التي جاءت نتيجتها إيجابية لحالة من اثنتين مشتبه فيهما، كانتا على متن الرحلة الجوية نفسها القادمة من إيران. مُذذاك، بدأ الاستثمار السياسي في قضية وطنية تعني جميع اللبنانيين وأمنهم الصحي، وبدأت الحملات لإغلاق المطار في وجه الرحلات الآتية من إيران، باعتبارها المُصدِّر الأول للوباء العالمي الى البلاد.
بدلاً من الكلام على «جنسية» مصدَر الوباء، وجعله مادة في البازار السياسي، كان ينبغي الالتفات إلى أن وصول الفيروس إلى لبنان حصل قبلَ الطائرة الإيرانية. وهذا الأمر يخضَع اليوم للتحقيق من قبَل فريق الترصّد الوبائي في وزارة الصحة التي يتوجّب عليها الإعلان عن ذلك لتحديد «رأس» لا يزال ربما مجهول الهوية، ساهم في انتشار الوباء قبلَ وصول الطائرة الإيرانية والإعلان عن أول حالة. فقد علمت «الأخبار» أن العوارض ظهرت على عدد من المُصابين منذ 26 شباط، أي بعدَ خمسة أيام من موعد وصول الطائرة. أحد هؤلاء هو المدرّس مارون كرم الذي توفي يوم 11 آذار. معظم المُصابين الآخرين هم من الآباء المقيمين في دير مار يوسف في الأشرفية، والذين لم يُعلن عن إصابتهم سوى بتغريدة نشرها الراهب اليسوعي الأب روني الجميل عبرَ صفحته على «فايسبوك» يوم ٨ آذار، قائلاً: «اتضح لدينا أن راهبين اثنين مقيمين في دير مار يوسِف، مُصابان بفيروس كوفيد ١٩، وكتدبير وقائي تم وضع جميع المُقيمين في الدير في الحجر الصحي لمدة أسبوعين».
هذه التغريدة لم تُرفَق بأي تفاصيل إضافية عن كيفية حصول العدوى. لكن ما لا يعرفه كثيرون أن العوارض بدأت بالظهور تِباعاً على الآباء بعدَ 4 أيام فقط من «رياضة روحية» شارك فيها 20 شخصاً في الدير بين يومي 20 و22 شباط الماضي. فماذا حصل؟
قالت مصادر اليسوعيين لـ«الأخبار» إن عوارض سُعال وحرارة ظهرت يوم 26 شباط على أحد الآباء، استدعَت نقلَه إلى المُستشفى، قبلَ أن يخرُج في اليوم التالي، إذ لم تتنبّه المُستشفى الى احتمال إصابته بفيروس كورونا. وبحسب مصادر في الدير، عاد الأب إلى الدير واختلطَ مع باقي الرهبان كما في العادة، ثم عادت إليه الأعراض وأدخِل مُجدداً إلى المُستشفى في 6 آذار وتحوّل إلى «مُشتبه فيه» بالإصابة. وبعد إجراء الفحص اللازم، تأكدت إصابته بالفيروس.
الأب المذكور لم يكن الوحيد الذي ظهرت عليه الأعراض في تلكَ الفترة. فأحد المحامين وزوجته كانا مشاركين في الرياضة الروحية نفسها، ظهرت عليهما العوارض أيضاً بعد 4 أيام فقط. وتلقّى المُحامي اتصالاً من الدير بعد أسبوع يطلُب إليه إجراء الفحص «بسبب وجود إصابات بين الفريق الذي كانَ مُشاركاً بالنشاط»، فجاءت النتيجة إيجابية أيضاً.
المعلومات المتعلّقة بهذا النشاط وطريقة انتقال العدوى والحضور تُحاط بدرجة عالية من التكتم. وانعكس ذلك في كلام عدد من المشاركين الذين تحدّثت إليهم «الأخبار»، إرباكاً وتناقضاً في المعلومات. قال أحدهم «إن النشاط استمر يومين، بين 20 شباط، و22 منه»، ثم تراجع وقال «إنه ليوم واحد في 22 شباط ولمدة ساعة»، علماً بأن أحد الموجودين في الدير كانَ قد لفت إلى أن «النشاط استمرّ لساعات وتخلله عشاء»!
ومن بين المعلومات المتداولة أن ناقل العدوى راهب حضر إلى لبنان من إيطاليا. وبحسب أحد متابعي القضية، فإن دراسة القضية تؤكد أن من نقل العدوى وصل إلى لبنان بين 15 شباط و20 شباط. فهل حددت وزارة الصحة المصدر؟ وهل جرت متابعة القضية لمنع المشكلة من التفاقم؟ مصادر في وزارة الصحة تؤكد وجود ما يجري التكتم عليه، سواء في الرهبنة، أو في مستشفى أوتيل ديو. ويقول عدد من المشاركين إنهم لا يعرفون مصدر العدوى. هذه المعلومات غير المكتملة لا تزال في دائرة التقصي في الوزارة، والتي لا تزال حتى اللحظة غير قادرة على تحديد مصدر الإصابة الأولى، وهي على اتصال بالمصابين في الدير لمحاولة الحصول على التفاصيل التي يُمكِن أن تفيدها في عملية الرصد.
المسؤولية الأولى تقع على عاتق وزارة الصحة. لكن ذلك لا يعفي الرهبنة من مسؤوليتها. والأجدى بها فتح تحقيق في الموضوع. فالتكتم على الأمر والركون إلى الضجة السياسية حول الطائرة الإيرانية قد يساهم في إخفاء الحقيقة، لكنه في الوقت عينه يعرّض حياة كثر للخطر (حالة الوفاة الرابعة التي سُجِّلت في لبنان أمس جرّاء كورونا يُعتقد أنها لشخص متصل بالسلسلة نفسها). والحديث هنا، لا علاقة له بتسجيل مواقف تُستثمر في السياسة، ولا هو سِباق بين «المُصدِّر» الأول أو «المُصدّر» الثاني، بل يرتبِط بأهمية تحديد رأس كل سلسلة بدأت منه العدوى لتفادي الانتشار، ولأن الكشف المُبكر عن الإصابات وبدء العلاج يرفع من نسب الشفاء (في الطائرة الإيرانية، وصل مريض إيراني مقيم في لبنان منذ سنوات طويلة. أتى من الكويت إلى بيروت عبر إيران، وتبيّن أنه مصاب بكورونا. ورغم أنه يُعاني من مرض السرطان، وأن سنه تتجاوز الـ 77 عاماً، سمح التشخيص المبكر لإصابته بكورونا بتحسّن حالته. وقد خرج أمس من غرفة العناية الفائقة الى غرفة عادية).
الآباء اليسوعيون في لبنان انتظروا حتى أول من أمس ليصدروا بياناً عن المصابين بفيروس «كورونا» جاء فيه: «حتى هذا اليوم، هناك 11 يسوعياً من رهبان ديري بكفيا وبيروت مصابون بفيروس الكورونا المستجد، 4 منهم يتلقون العلاج في المستشفى. ويلتزم يسوعيّو بيروت الحجر الصحي منذ 7 آذار حتى إشعار آخر. ويخضعون لمراقبة صحية مستمرة، وللتحاليل بشكل دوري، وقد انضمّ إليهم اليسوعي من دير بكفيا في 15 آذار». بدورها، أعلنت بلدية بكفيا ــــ المحيدثة، في بيان، أنّه «نظراً إلى المعلومات المتوافرة عن إمكانية حمل عدد من الآباء اليسوعيّين المقيمين في سيدة النجاة في بكفيا عدوى فيروس كورونا نتيجة لقائهم بشخص إيطالي مصاب. وبعدما تبيّن أنّ أحد الآباء جاءت نتيجته إيجابية دون أي عوارض ظاهرة، قام بخدمة القدّاس في كنيسة سيدة النجاة في بكفيا»، ودعت جميع الأشخاص الذين كانوا في القداس إلى اتّخاذ أقصى تدابير الوقاية الصحية عبر الحجر المنزلي التامّ وعدم الاحتكاك بأشخاص آخرين لحين انقضاء فترة الحجر المطلوبة». بيان البلدية يُثبت مجدداً، بحسب مصادر معنية بالقضية، أنه كان على «اليسوعيين» التحلي بالشفافية، وإصدار بيان بشأن ما جرى، أقله منذ نقل الراحل مارون كرم إلى المستشفى (يوم 27 شباط). فالإعلان المبكر يسمح باتخاذ خطوات كفيلة بالحد من الانتشار، كما بمعالجة المصابين.
ميسم رزق – الأخبار