كتب وليد حسين في “المدن”:
ساحات إيطاليا خالية. هذا ما بدا مساء الأربعاء 11 آذار الجاري، في بث المباشر من ساحات روما وميلانو على قناة “راي” الإيطالية. فالحكومة اتخذت إجراءات صارمة أقفلت بموجبها البلاد، لحصر الأعمال في بعض القطاعات الحيوية. وعلى جميع المواطنين التزام بيوتهم حتى مطلع الشهر المقبل، لاحتواء وباء كورونا. إجراءات مؤلمة لكنها لخير إيطاليا، قال رئيس الحكومة.
انتظار إيران
من يلقي نظرة على خارطة توزع انتشار الوباء في إيطاليا، يدرك سريعاً أن بعض الأقاليم الإيطالية التي تفوق لبنان مساحة وسكاناً، باتت مقفلة والتزم سكانها بيوتهم، رغم أن عدد الإصابات فيها أقل من لبنان الذي رفضت حكومته اتخاذ إجراءات صارمة منذ البداية: وقف رحلات الطيران من الدول الموبوءة. بدلاً من ذلك سُيِّسَ الأمر، كأنما المقصود “التآمر على محور المقاومة”. وانتظرت الحكومة اللبنانية اتشار الوباء في دول غير إيران، لإعلان وقف الرحلات، التي لم تتوقف إلا البارحة.
فوزير الصحة ما زال يعتبر أن تفشي الوباء كان نتيجة اختلاط المواطنين بالمصابين، ورئيس الحكومة ما زال يصرّ ويصرح بأن “هناك استثماراً سياسياً في موضوع كورونا، والبعض يتعامل مع الحكومة “بالنكايات والحسابات الخاصة”، على ما صرح بعد جلسة مجلس الوزراء الخميس.
تأخر واستدراك
تأخرت إيطاليا في إعلان حال الطوارئ إلى حين انتشار الفيروس، واستنفاد قدرة مستشفياتها على استقبال المصابين. واستنفرت الحكومة وفرضت الحجر المنزلي على المواطنين جميعاً. ولاحقاً تبعت معظم الدول الأوروبية إيطاليا في اتخاذ إجراءات مماثلة، حيال تقدم الوباء. فسرعة انتشاره تقتضي من المواطنين التزام بيوتهم، لعدم نقل العدوى التي تفتك بكبار السن، الذين لن يجدوا أسرّة في المستشفيات، على ما هي الحال اليوم في إيطاليا.
المقاهي والمطاعم مقفلة في إيطاليا. وهذا يعني الكثير لشعب لا يبارح “البارات” (القهاوي كما يقال في لبنان) صباحاً ولدى انتهاء دوام العمل مساء، وفي بلد يعج بالمقاهي والسياح. فمن عادات الشعب الإيطالي تناول القهوة صباحاً، قبل الذهاب إلى العمل. وذلك في المقاهي المنتشرة بكثرة في الأحياء. وتناول “الأبيرتيفو” بدءاً من الساعة السادسة مساءً بعد انتهاء دوام العمل. لكن انتشار وباء كورونا استدعى قرارات حكومية وحملات شعبية على وسائل التواصل الاجتماعي، للتضحية بهذه العادات موقتاً. فالمسألة تتعلق بالمصلحة القومية والحفاظ على إيطاليا، قال رئيس الحكومة.
لقد اكتشفت إيطاليا أول حالة مصابة بالفيروس في 20 شباط في مدينة كودونيو الشمالية. وكان الفيروس يتجول فيها طوال أسابيع سابقة. انتشر الفيروس بسرعة فائقة في المدن الإيطالية كلها. ورغم أن الوباء ما زال مقتصراً على أقاليم شمالية، لومبارديّا وإيميليا رومانيا، لم تطلق الحكومة جرس الإنذار في البداية، حتى باتت المستشفيات غير قادرة على استيعاب أعداد المصابين.
قدر كبار السن
حالياً فاق عدد المصابين في إيطاليا 15 ألف مصاب في أقل من شهر على اكتشاف الحالة الأولى. فعمل الجسم الطبي على تصنيف المصابين وفق ضرورة دخولهم إلى المستشفيات أو تلقي العلاج في المنازل. وباتت المستشفيات تستقبل المرضى الذين بحاجة لعناية طبية مكثفة، ووفق أعمار المصابين، على ما أخبرتني صديقة إيطالية.
حتى أن بعض المعارضين باتوا ينتقدون إجراء استقبال المرضى إلى حد عمر الثمانين سنة. لذا أخذوا ينتقون من كبار السن الحالات التي يمكن شفاءها، ويتركون للقدر الحالات الميؤس منها. فلا طاقة للمستشفيات على استقبال جميع المرضى من الذين يحتاجون للمكوث في غرف العناية الفائقة والتنفس الاصطناعي.
أرقام عالمية
عدد المصابين عالمياً (فاق 126 ألف مصاباً). وعدد الذين شفوا يفوق الستين ألفاً، وضحاياه لا يتجاوزون خمسة آلاف. وهذه الأرقام تقول الكثير. فضحايا نزلات البرد العادية يتخطون هذه الأرقام بأشواط.
ومن مساوئ كورونا فتكه بكبار السن والأشخاص الذين يعانون من الأمراض المزمنة. ما يعني أنه لا يستدعي الهلع العالمي، على الرغم من اعتبار منظمة الصحة العالمية أنه بات وباءً عالمياً. لكن سرعة انتشار الفيروس وتهديده المباشر حياة كبار السن، والذين يعانون من أمراض مزمنة وعدم قدرة الأنظمة الصحية على استقبال المرضى، تستدعي احتواءه.
وها هي الصين تعلن وضع هذا الفيروس خلف ظهرها. لكن بعد نحو خمسين يوماً على إلزام مواطني المقاطعات التي انتشر فيها الوباء الحجر المنزلي. وهذا الإجراء الوحيد المنطقي للحد من تفشي العدوى، في ظل عدم التوصل إلى الترياق المناسب له.
ليلتزم اللبنانون المنازل
هل ينتظر الشعب اللبناني تفشي الوباء لإعلان الحكومة حال الطوارئ، أم أن على اللبنانيين التزام بيوتهم من تلقاء أنفسهم؟ فالتعويل على الحكومة لن يجدي نفعاً.
فالحكومة لن تعوض على المواطنين الخسارة المادية جراء المكوث في المنازل، في بلد نصف مواطنيه من المياومين. ولن تطلب من المؤسسات الخاصة عدم إجبار الموظفين على الحضور إلى العمل تحت طائلة فقدان رواتبهم. ولن تفرض عليهم التعويض على أيام التغيب عن العمل. ما يعني أن التزام المنازل تضحية كبيرة لا تعوّض، ومن الصعب الطلب من الشعب تكبد هذه الخسارة في ظل فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم. ولن ينصت اللبنانيون لكلام مثل “لصالح خير لبنان الحبيب”. وعلى اللبنانيين البقاء في المنازل، على ما قال رئيس الحكومة الإيطالية لشعبه.
لكن رفض المستشفيات الخاصة استقبال المصابين، واقتصار الأمر على المستشفيات الحكومية، التي لا يرتادها اللبنانيون إلا ما ندر، يفرض عليهم البقاء في المنازل. غير ذلك سيأتي سريعاً اليوم الذي لن يجدوا فيه أسرّة لهم لتلقي العلاج.