«في عهد فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، وفي حكومة دولة الرئيس حسان دياب، وبحضور وزيرة الدفاع زينة عكر، وبمشاركة قائد الجيش العماد جوزف عون….». كان يمكن لعبارات كهذه أن تُحفر على لوحة رخامية، لتؤرخ حدثاً عظيماً، وتُثبَّت على صخور نهر الكلب مثلاً. لكن، في عهد فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال عون، وفي حكومة دولة الرئيس حسان دياب، وبحضور وزيرة الدفاع زينة عكر، وبمشاركة قائد الجيش العماد جوزف عون، وبتشجيع وتدخّل من النائب جبران باسيل وسفير لبنان في واشنطن غبريال عيسى وآخرين، تم الإفراج عن العميل عامر الفاخوري، جزار معتقل الخيام. أوقفت السلطات اللبنانية الفاخوري، في أيلول الماضي، بعدما عاد القائد السابق لثكنة الخيام في عصابات عملاء العدو الإسرائيلي قبل تحرير الجنوب، والمسؤول العسكري لمعتقل الخيام، من الولايات المتحدة الأميركية برعاية رسمية، وبمواكبة أمنية من استخبارات الجيش، ودبلوماسية من السفارة اللبنانية في واشنطن. أوقِف بعدما افتُضِح أمر دخوله البلاد. منذ لحظة توقيفه، بدأت الضغوط الأميركية. حاول مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس التهرّب من توقيفه. لكن ضغوط الأمن العام حالت دون ذلك. سريعاً فرّ جرمانوس، وأحال الملف على معاونته القاضية منى حنقير التي ادّعت على العميل الموقوف. لم تثن الضغوط القاضية نجاة أبو شقرا عن إصدار قرار باتهامه.
فجأة، جرى «اكتشاف» إصابته بالسرطان. تزامن ذلك مع رفع أسرى محرّرين دعوى جزائية ضد الفاخوري. لكن قاضي التحقيق لم يتمكّن من استجوابه مرة واحدة. وفي كل جلسة، كانت ترد إليه برقية أمنية تقول: «تعذّر سوقه لأسباب صحية». قبل ذلك، جرى التعذّر بـ«الأسباب الأمنية» لعدم نقله إلى مكتب قاضي التحقيق في النبطية لاستجوابه. كانت الخطة توجب عدم صدور مذكرة توقيف تمنع إطلاقه لاحقاً.
لم يُترك الفاخوري ينام في زنزانة بعد ذلك. تولى الجيش حمايته كسر من أسرار الدولة. يمكن أياً كان أن يعرف خبايا المؤسسة العسكرية، لكن أحداً لم يتمكّن من الجزم بمكان وجود الفاخوري. قيل إنه في مستشفى. وقيل إنه نقل إلى آخر. الضغوط الأميركية كانت تتكثّف. تهديدات بعقوبات، وبوقف المساعدات عن الجيش. قائد الجيش أصلاً لم يكن بحاجة إلى تهديدات. هو حريص على الفاخوري كحرص بنات الأخير عليه. يتحصّن بأن أحداً في هذه البلاد لا ينتقده. ثم أتته حصانة مضاعفة. وكيل وزارة الخارجية الأميركية ديفيد هيل يزور لبنان لينقل إلى وزير الخارجية السابق جبران باسيل رسالة وحيدة: الرئيس دونالد ترامب يطلب شخصياً إطلاق سراح الفاخوري. وإذا مات في السجن، فتوقعوا أشد العقوبات. السفيرة الأميركية السابقة إليزابيت ريتشارد تزور رئيسي الجمهورية والحكومة، مطالبة بإعادة الفاخوري إلى بلادها. خليفتها، دوروثي شيا، تقدّم أوراق اعتمادها المعنونة بـ«نريد عامر الفاخوري». مدير محطة الاستخبارات المركزية الأميركية في بيروت (سي آي إيه) يجول على المسؤولين الأمنيين مستطلعاً عن الفاخوري. يجزم أحد السياسيين الجديين في فريق 14 آذار السابق بأن الفاخوري كان يعمل في جهاز أمني أميركي، وبأنه كان مكلفاً بمهمة في لبنان. يُرد عليه بأن لانغلي وأخواتها لن ترسل عميلاً إسرائيلياً إلى لبنان لتنفيذ مهمة، فيجيب: راقِبوا ما يقوله مسؤولو واشنطن، تعرفون أهمية الرجل. إنهم يُعدّون قانوناً في الكونغرس يعاقب كل من تسبّب في توقيفه.
القرار صدر أخيراً. هندسته، من خلف الستارة، وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. البيت الأبيض (ومكتب الأمن القومي ضمناً) والخارجية الأميركية والسفارة في عوكر نقلوا القرار إلى الجانب اللبناني. عاونهم في ذلك السفير اللبناني غبريال عيسى الذي زار بيروت في شباط الماضي ليبلغ رئيس الجمهورية وباسيل أن واشنطن ستفرض عقوبات على لبنان، وعلى شخصيات لبنانية، وستوقف المساعدات للجيش، إذا بقي الفاخوري موقوفاً. حرص الأميركيون على التفاصيل. اتُّخِذ القرار في بعبدا، وبالتشاور مع رئيس الحكومة الذي وافق، فيما كان قائد الجيش «على الخط» مع عوكر. فوتِح حزب الله بالأمر مرتين على الأقل (مرة من قبل رئيس المحكمة العسكرية، ومرة من قبل العونيين). وفي المرتين، كان يجيب بأن هذا الأمر خط أحمر. يومها قال المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات إن الفاخوري سيموت في السجن.
لكن واشنطن تفعل ما تشاء في بيروت.
تولى قائد الجيش إبلاغ رئيس المحكمة العسكرية العميد حسين عبد الله بالقرار، فيما تولى العونيون أمر القاضي بيتر جرمانوس، الفار من ملفات الفساد إلى الاستقالة. رُكِّبت جلسة المحكمة العسكرية أمس، فيما المحاكم مقفلة. وقبل سريان قرار إقفال المطار، أصدرت المحكمة العسكرية، برئاسة العميد حسين عبد الله، وبإجماع أعضائها، قرار الموافقة على الدفوع الشكلية التي قدمها وكلاء الفاخوري القانونيون. التهم الموجهة إليه أسقِطت. كان جرمانوس قد استبق ذلك بترك الأمر للمحكمة، ما يعني أنه لن يطلب نقض قرارها. في الحكم الذي أصدرته هذه المحكمة الاستثنائية (ولا يُعرف سبب استمرار وجودها أصلاً)، والذي لم يأت على ذكر العدو الإسرائيلي، ارتكبت المحكمة مخالفة للقانون، واضحة وصريحة ولا تحمل أي لبس. أوردت في التهم الموجهة إلى الفاخوري «تعذيب الأسير علي حمزة ومن ثم خطفه وإخفائه». وفي العبارة التي تلي، كتبت المحكمة «سقوط دعوى الحق العام بمرور الزمن العشري». جهابذة المحكمة العسكرية، الذين نفذوا الأمر السياسي الممتثل للأوامر الأميركية، لم يلتفتوا إلى أن جرمي الخطف والإخفاء لا يسقطان بمرور الزمن. فماذا لو كان علي حمزة لا يزال مخطوفاً حتى اليوم؟ القضاء الذي انتظر سنوات ليتثبّت من أن معمر القذافي قد قُتِل، اعتمد على روايات شهود قالوا إنهم رأوا الفاخوري ينقل الأسير علي حمزة الذي لم يكن يتحرّك. تجاهلوا أن حمزة لا يزال في السجلات اللبنانية حياً، واسمه يرد بلا شطب في «إخراج القيد» العائلي. هذه الفضيحة، على فداحتها، شكلية للغاية مقارنة بفضيحة إطلاق الفاخوري. لكن الثانية بُنيت على الاولى.
المدعي العام التمييزي قال إنه سينقض قرار المحكمة العسكرية. «شكليات» إضافية. فقانون القضاء العسكري ينص في المادة 92 على أن نقض الحكم من قبل النيابة العامة لا يوقف تنفيذه. ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الفاخوري حر، ولن يعود إلى السجن. ولا يستغربنّ أحد إعلاناً قريباً عن تعافيه من مرض السرطان الذي قيل إنه أصيب به، ليخرج قبل الانتخابات الأميركية في فيديو إلى جانب دونالد ترامب.
حزب الله: القضاء على محك الكرامة
علّق حزب الله، في بيان، على قرار المحكمة العسكرية القاضي بإطلاق العميل عامر الفاخوري، مسلطاً الضوء على «الضغوط والتهديدات الأمريكية، سراً وعلانية، لإجبار لبنان على إطلاقه مع ثبوت كل الجرائم المنسوبة إليه، ومع كل ماضيه الأسود والدموي. ويبدو أن الضغوط الأميركية وللأسف قد أثمرت. ففي خطوة غير متوقعة، أقدمت المحكمة العسكرية على هذا القرار الخاطئ، وتجاوزت كل الآلام والجراحات بكل ما تعنيه هذه الخطوة البائسة بالنسبة إلى العدالة أولاً، وبالنسبة إلى المظلومين والمعذبين الذين ما زالت جراحات بعضهم تنزف حتى الآن».
ورأى حزب الله أن «هذا اليوم هو يوم حزين للبنان وللعدالة، وهو قرار يدعو إلى الأسف والغضب والاستنكار، وكان من الأشرف والأجدى لرئيس المحكمة العسكرية وأعضائها أن يتقدموا باستقالاتهم بدلاً من الإذعان والخضوع للضغوط التي أملت عليهم اتخاذ هذا القرار المشؤوم».
ودعا «القضاء اللبناني إلى استدراك ما فات، من أجل سمعته ونزاهته التي باتت على محك الكرامة والشرف، وكذلك من أجل حقوق اللبنانيين والمعذبين والمظلومين وكل من ضحّى في سبيل وطنه وتحرير أرضه».
حسن عليق – الاخبار