الموقِف شيء والتصويت شيء آخر. وفقَ هذه القاعدة تصرّفت بعض الكتل النيابية المُطالِبة بمحاربة الفساد، ووقعت في فخ ازدواجيتها، بعدما أسقطت صِفة العجلة عن اقتراح قانون «مُلاحقة الوزراء»، ليُحال الاقتراح إلى اللجان من جديد، حيث سينام في الأدراج كما جرت العادةضيّع مجلِس النواب أمس فرصة كبيرة لإثبات أيّ جدية في «مُحاربة الفساد». وبينما كان أصحاب السعادة ملزمين بفعلٍ «ضخم» لاستعادة الثقة أو ما تبقّى منها، أثبَتوا عدم القدرة على المُحاسبة بعيداً من تصفية الحسابات، ولو في الشكل، ليتأكد المؤكد بأن الحماية الحقيقية التي يتسيّج بها المرتكبون الكبار والصغار، هي حماية النظام الطائفي «أولاً وأخيراً».
بعض الكتل أمس وقعت في فخ ازدواجيتها، فمنعت تشريع ملاحقة الوزراء ومحاكمتهم أمام القضاء العادي. ولأن المكتوب في مجلس النواب يُقرأ من عنوانه، استبق عضو كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب علي عمار «واقعة» عدم إقرار القانون في الهيئة العامة، مُعلناً استقالته من المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، كونه هيئة بطالة غير مقنّعة، لأن ملاحقة الوزير أمامه شبه مستحيلة، كونها بحاجة إلى أكثرية ثلثَي أعضاء مجلس النواب.
النقاش في خضوع الوزراء للمحاسبة أمام القضاء العادي، بدأه عضو الكتلة نفسها النائب حسن فضل الله (يتشارك مع النائب هاني قبيسي في تقديم اقتراح القانون)، بتأكيد «أننا نريد الوصول إلى نتيجة»، وخاصة «أننا عجزنا عن إحالة وزير واحد إلى القضاء، ونحن على استعداد للسير بأي تعديل للقانون أو للدستور أو أي صيغة تتيح الوصول إلى الهدف، لأن إحدى الطرق الأساسية لاستعادة الأموال المنهوبة هي أن نتمكن من الاستماع إلى الوزراء أمام القضاء العادي». ردّ برّي: «ما تفضلت به صحيح، والنص الذي قرأته هو نص كامل، إنما الفقرة الأخيرة، وعادة عندما يكون هناك تعديل دستوري، تأخذ برأي لجنة الإدارة والعدل. لذلك أهم شيء هو التعديل الدستوري».
كان أمام مجلسِ النواب ثلاثة اقتراحات تفي بالغرض، وكان بالإمكان اعتماد أحدها لو كانت النية موجودة. فإما الذهاب إلى تعديل دستوري للمادة 70 من الدستور اللبناني التي تنصّ على صلاحيّة مجلس النواب باتهام رئیس مجلس الوزراء والوزراء بارتكابهم الخیانة العظمى أو بإخلالهم بالواجبات المترتّبة علیهم؛ وإما إقرار قانون يرفع الحصانة عن الوزراء الحاليين والسابقين الذين تولوا منصباً في الحكومات منذُ عام 1992، بحيث يُصبح للقضاء سلطة ملاحقتهم في دعاوى هدر المال العام (وهو اقتراح القانون المُقدّم من النائبين فضل الله وقبيسي)، أو تعديل قانون المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، بحسب اقتراح قانون مقدم من النائبين نفسيهما، يتيح للقضاء العدلي المُختص ملاحقة رئيس الحكومة والوزراء على الجرائم العادية أو المرتكبة بحق الأموال العامة أو جرائم الفساد أو المعاقَب عليها بقانون العقوبات. وحيث كان الخيار الأول بتعديل الدستور صعب التحقيق، لوجود خلاف كبير في تفسير المادة، اعتبر بري أن الخيار الأسهل لتحقيق الهدف هو اعتماد الخيار الثالث أي تعديل قانون المجلس الأعلى (اقتراح فضل الله وقبيسي) وبذلك يصبح للقضاء العدلي الحق في ملاحقة الوزراء المرتكبين.
واللافِت أن بري أعطى النقاش مداه في هذا الأمر، نظراً إلى أهميته، علماً بأن الكلام في حالة المعجّل المكرر يُعطى لصاحب الاقتراح وحده قبل طرحه على التصويت، ووافق عليه كل من حزب الله وحركة أمل والقوات والكتائب اللبنانية والنائبين بولا يعقوبيان وجميل السيد، لكنه سقط برفض التيار الوطني الحر (باستثناء النائب الآن عون) وتيار المستقبل والحزب الاشتراكي، ليحال من جديد على لجنة الإدارة والعدل. صحيح أن إسقاط صفة العجلة عن الاقتراح لا يعني سقوط المضمون، إلا أن رسالة القوى السياسية المعترضة على العجلة لا تبشّر بالخير.
مشاريع الحكومة فتيل توتير…
على عكس «الوئام» الذي شهدته جلسة أول من أمس بين الرئاستين الثانية والثالثة، إلى حدّ أن الرئيس بري دفع عن رئيس الحكومة حسان دياب سهام النواب بحرمانهم من الكلام «من باب الأوراق الواردة» (أي خطابات النواب التي لا صلة لها بالتشريع قبل البدء بمناقشة اقتراحات ومشاريع القوانين)، انتهت الجلسة التشريعية بسخونة سياسية بينَ بري ودياب، مشرّعة الباب أمام أسئلة كثيرة عمّا وراء الأكمة. بطريقة مستغربة، انتهت الجلسة بفقدان النصاب، فور البدء بمناقشة مشروع القانون المقدم من الحكومة لفتح اعتماد إضافي بقيمة 1200 مليار ليرة، يستخدم في ما تسميه الحكومة «تأمين شبكة الأمان الاجتماعي» على مدى سنة. فقدان النصاب جرى بسبب انسحاب نواب المستقبل والاشتراكي. وهذا الانسحاب جاء عقب تنسيق بين نواب الأخير والنائبة بهية الحريري أفضى بسرعة إلى خروج أعضاء الكتلتين من القاعة. أثار هذا الأمر استياء رئيس الحكومة الذي طلب من الرئيس بري عقد جلسة مسائية لاستكمال النقاش في المشروع لما له من أهمية، لكن بري ردّ بالقول: «ما حدا بيفرض عليّ شي، المشروع يحال الى اللجان، على أن يُبتّ في غضون 15 يوماً»!
مصادر نيابية أكدت أن «الإشكال كان وليد اللحظة»، فبرّي طالب النواب الذين خرجوا من القاعة بالعودة إليها. لكن ما سعّر التوتر، هو إصرار دياب على إقرار القانون «الآن»، طالباً من وزيرة الدفاع زينة عكر شرح تفاصيله. وهنا أساس المشكلة التي اعترض عليها عدد من النواب، إذ إن «مشروع القانون وصل أول من أمس إلى الهيئة العامة لمجلس النواب، وجرى توزيعه على النواب في جلسة أمس، ولم يتح لهم الاطلاع على تفاصيله، كما أنه مرسَل بسطر ونصف سطر من دون شرح الأسباب الموجبة ولا آلية التوزيع ولا الجهة المخوّلة توزيع الأموال»، مستغربين كيف «يُصار إلى إقرار دَين جديد بهذه الكلفة ولو بالعملة المحلية من دون درسها في اللجان»؟
يتوعّد النواب بمحاربة الفساد ثم يفعلون العكس عند التصويت
ولم ينتهِ السجال بانتهاء الجلسة، فقد صدر عن الأمانة العامة لمجلس النواب بيان من سطر واحد قالت فيه: «على الحكومة أن تتعلم كيفية إرسال مشاريع القوانين الى مجلس النواب قبل التطاول عليه». وعلمت «الأخبار» أن البيان جاء رداً على «تعليقات دياب وعكر إزاء أداء مجلس النوّاب في الجلسة»، وكانت عكر قد كتبت تغريدة عبرَ صفحتها على «تويتر» قالت فيها: «اليوم في البرلمان طيّروا النصاب. آمل أن يدحضوا مقولة أن لا حقوق للناس دون الزعماء وأنهم لا يريدون لنا النجاح ولا لشعبنا الخلاص».
ولم يكُن مشروع الخطة التحفيزية هو المشروع الوحيد الذي وتّر الأجواء، فقد أثار فتح اعتماد إضافي بقيمة 450 مليار ليرة مستحقات للمستشفيات الخاصة سجالاً حاداً بشأن إحالة المشروع الى لجنة الصحة النيابية، قبل إقراره، علماً بأنه وصل إلى النواب قبل فترة قصيرة من الجلسة. وعلّق بعض النواب عليه بالقول إنه «جرى سلقه ولم نفهم كيف جرت مناقشته، ولماذا علينا أن ندفع للمستشفيات الخاصة المستحقات مئة في المئة، علماً بأنه في السابق كان يجري خفضها بنسبة 20 إلى 30 بالمئة، وما حصل هو فضيحة»! هذه «الفضيحة» مرّت أمس. أما مشروع مساعدات للأسر الأشد فقراً وقروض مدعومة (بلا فوائد) للمزارعين والحرفيين ولاستيراد المواد الخام لمؤسسات صناعية (وهي أبرز بنود مشروع القانون الذي لم يُقر)، فأحيلت إلى اللجان، رغم أن البلاد في حالة طوارئ والاقتصاد بحاجة إلى كل تحفيز ممكن.
الأخبار