أسّس الحديث المستجدّ عن دعم ترشيح قائد الجيش العماد جوزف عون كرئيس توافقي للجمهورية، وإعلان الحزب التقدمي الاشتراكي بزعامة وليد جنبلاط تأييد هذا الترشيح، لجملة أسئلة تمحورت غالبيتها حول صدور «كلمة السر» ومصدرها وما إذا كانت لتمرير الاستحقاق في 9 كانون الثاني وفقَ الاسم المحدد أم أنها مناورة سياسية لحرق اسمه؟
عملياً، يقرّ الجميع بوجود دفع حقيقي في اتجاه انتخاب عون، لكن، يبدو أن الأمر يحتاج إلى تمهيد عند القوى المسيحية قبل الآخرين، حيث برزت أمس أجواء قوى بارزة من التيار الوطني الحر وحتى «القوات اللبنانية» تعكس انزعاجاً من مبادرة جنبلاط إلى إعلان الترشيح والدعم، وتصرّف نواب آخرون مع الأمر، وكأنه محاولة «المسلمين العودة إلى إملاء المرشح الرئاسي على المسيحيين»، علماً أنه بينما يعارض التيار انتخاب عون، فإن «القوات» لم تعلن موقفاً رافضاً، وهي تقول إنه ليس لديها فيتو على قائد الجيش، ولكن هناك حاجة إلى حوار معه قبل إعلان الموقف النهائي.
وعليه، بقي جنبلاط هو الجهة التي تركّزت عليها الأنظار والهجوم، علناً وسراً، لعدة أسباب، خصوصاً أن الجميع سأل عن الأسباب التي دفعت بزعيم المختارة لقول كلمته باكراً. ولماذا أيّد جنبلاط ترشيح عون، وهو من المعروفين بموقفه غير المحبّذ لوصول بدلة عسكرية إلى بعبدا؟
وكان جنبلاط قد أوضح أمس أن سبب دعم عون للرئاسة “لأنه يمثّل مؤسسة مهمة وقام بعمل ممتاز من أجل استقرار لبنان، وهو مهم جداً في هذه المرحلة للاستقرار والأمن في البلد”.
وفي لقاء مع مجلس العلاقات العربية الأميركية، قال جنبلاط “أفضّل انتخاب رئيس للجمهورية خلال عهد بايدن، رغم عدم موافقتي على سياسته، وخصوصاً بعد ما شهدناه في غزة. ولكن لا ينبغي الانتظار حتى تولّي الإدارة الأميركية الجديدة، فقد رأينا ما قد تحمله من توجهات”. وأضاف: “آمل أن يتم انتخاب رئيس للجمهورية في جلسة 9 كانون الثاني، وأعتقد أن عون يحظى بدعم من الإدارتين الأميركية الحالية والمقبلة”.
لكن الجديد، هو أن الجميع فسّر خطوة جنبلاط على أنها انعكاس لتوجه خارجي، باعتبار أنه لا يخفي في مجالسه الخاصة أنه «لا يمشي عكس التيار السعودي»، فبادر كثيرون إلى التصرف على أساس أن الرياض تتجه إلى إعلان تأييدها لعون، وبالتالي فإن عربة الأخير أصبح لها حصانان: أميركي وسعودي وهذا كافٍ للنواب أن يسيروا به.
وقد عزّز هذا الرأي، ما أعلنه عضو كتلة الاعتدال الوطني النائب وليد البعريني عن أن «اللجنة الخماسية تقدّم اسم قائد الجيش على غيره من الأسماء التوافقية». وهو موقف فتح الباب للبحث عن الأصوات السنية التي صارت في جيب عون، إلا أن ما تبيّن حتى مساء أمس أن «غالبية النواب السنّة تميل إلى انتخابه لكنها تنتظر موقفاً واضحاً من الرياض».
وقالت مصادر معنية بالملف الرئاسي، إن «إخراج اسم جوزف عون إلى العلن وفي هذا التوقيت لم يكُن بإيعاز أميركي – سعودي مباشر، إنما كانَ حركة جرى تمريرها عبر جهات محلية لإيصال رسالة إلى الفريق الآخر وتحديداً حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر بأن ورقة جوزف عون صارت قريبة ولتحريك المياه الراكدة، علّه يحصل توافق معين، خصوصاً أن عون يواجه عقبة التعديل الدستوري».
لكنّ المصادر نفسها تدعو إلى التوقف عند الموقف المسيحي مما حصل، كاشفة أن «هناك امتعاضاً من الجو المحيط بجلسة 9 كانون المقبل، ولا يتعلق الأمر فقط باسم عون بل لأن تسويقه خرج من المختارة، وهذا ما يجعل الأحزاب المسيحية في موقع من ينتظر صدور الأمر». وقالت المصادر إن «خطوة جنبلاط تعيدنا إلى تجربة حصلت عام 2008 قبل انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وكانت القصة بدأت مع كلام عابر لأحد نواب كتلة «المستقبل» النيابية وهو النائب عمار حوري المعروف عنه التزامه الكامل بمواقف الكتلة ورئيسها النائب سعد الحريري عن إمكانية القبول بالعماد سليمان مرشحاً توافقياً. يومها كانَ ترشيح قائد الجيش مرفوضاً من قبل عدة أطراف، بينها «القوات» التي اتهمت سليمان بأنه لم يقم بواجبه في 7 أيار كما تدّعي معراب. وعلى إثر تصريح حوري، جرى التواصل مع الرئيس سعد الحريري للاستفسار عن ذلك والاعتراض على كلام نائب كتلته، ليقول الحريري إن كلمة السر السعودية وصلت: يريدون ميشال سليمان وهكذا حصل!
اليوم تبدو الأمور أكثر تعقيداً. فجعجع لا يزال مصرّاً على ما قاله في الأسابيع الماضية، وشدّد عليه بعد سقوط النظام في سوريا، لجهة اعتبار موقع رئاسة الجمهورية يخص التمثيل المسيحي، وطالما أن «القوات» تمثّل أكبر كتلة نيابية مسيحية، فهي من يطرح الأسماء ويأتي الآخرون للتفاهم معها وليس العكس. ويسري هذا الكلام طبعاً على جنبلاط، الذي تعتبر أوساط نيابية أنه أحرج المعارضة، فهي لم يعد باستطاعتها التقاطع على اسم، مثل ما فعلت مع الوزير السابق جهاد أزعور لأنها لن تستطيع تأمين 65 صوتاً له. ولذلك سرّبت «القوات» أمس أجواء أن «الأمور في الملف الرئاسي لم تنضج بعد».
وفي ما اعتبرت المصادر أن جعجع «يحاول أن يحصل على ثمن كبير مقابل القبول بعون»، أكّدت أن العقبة الدستورية ليست تفصيلاً أمام قائد الجيش لأنّ الدعم الخارجي الذي يحظى به ليس كافياً لإزالة كل الحواجز. فالاتفاق مع الرئيس نبيه بري هو ضرورة قصوى، وفي حال لم يوافق بري ومعه حزب الله واستمر رئيس «التيار الوطني» جبران باسيل على موقفه فإن النصاب لإجراء التعديل الدستوري أو تكرار تجربة ميشال سليمان سيكون شبه مستحيل. وفي هذا الإطار، اعتبرت مصادر نيابية بارزة، أن طرح اسم عون بالطريقة التي جرت من قبل جنبلاط، شكّل استفزازاً للقوى المسيحية قد لا يكون بالضرورة لانتخابه وإنما لحرق اسمه وإسقاطه من لائحة المرشّحين.
(الأخبار)