خضر خروبي
من واقع داخلي يرزح تحت وطأة أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية متلاحقة، انطلق الرئيس الأميركي جو بايدن في رحلته الأولى إلى السعودية على أمل تعويض الإحباط المحلي بآفاق انجاز ما يتطلع إليه من بوابة السياسة الخارجية. الرئيس المستجير من تخبط الوضع الاقتصادي في الداخل الأميركي، والذي عكسه مؤشر التضخم الذي بلغ أعلى مستوياته منذ أربعين عامًا، ومن تراجع شعبيته إلى حدود وصلت إلى 18 في المئة وفق بعض الاستطلاعات، بحلفائه الخليجيين في المنطقة سوف يعاين واقعًا إقليميًا مغايرًا عما ألفه أسلافه من الرؤساء، وحالة من “السيولة الجيوبوليتيكية” في ظل النفوذ الإيراني المتعاظم من جهة، والتقارب “الخفي” بين بعض الدول العربية و”إسرائيل”.
المفارقة أن الرئيس الأميركي يزور منطقة سبق أن أعلن أنها لن تكون ضمن سلم أولويات إدارته، وذلك لحساب أولويات أخرى يراها، ومن خلفه المؤسسة الأمنية والاستخبارية العميقة، في المعركة الدائرة على حدود روسيا، وبحر الصين، ناهيك عن انشغاله بالاستحقاق الانتخابي الذي اقتربت آجاله، وهو موعد الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل.
ابن سلمان vs بايدن
في الخلفية العامة للزيارة، يحضر مشهد “النزال الخفي” بين الرئيس بايدن، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
ومنذ اللحظات الأولى لإعلان فوز الرئيس جو بايدن على خصمه الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، كان لدى الأمير السعودي، أسباب عدة للاستعداد لعلاقة عصيبة على وشك أن تجمعه بالرئيس الجديد، في ضوء تعهدات الأخير الانتخابية بمحاسبة السعودية وجعلها “دولة منبوذة”، على خلفية انتقاداته لأدائها في حرب اليمن، وسجلها الحقوقي، فضلًا عن تبني بايدن فرضية مسؤولية ابن سلمان عن جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي. فالرئيس “الديمقراطي”، وفق محللين أميركيين، والذي كان أحد أركان إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، الذي أطلق عنان توجه الاهتمام الاستراتيجي الأميركي نحو أقصى الشرق الآسيوي، على حساب الشرق الأوسط، ذهب بعيدًا في مواقفه “العدائية” للأمير الشاب، كما أنه ليس لديه اهتمامات كبرى حيال السعودية تتجاوز الذهنية التقليدية للرؤساء الأميركيين في التعامل مع الرياض كـ “محطة وقود”، في ظل مساعيه إلى إبرام تفاهمات جديدة مع طهران بشأن برنامجها النووي، واستكمال مسيرة الاستغناء عن النفط الخليجي، بخاصة السعودي. ورغم أن اكتشافات الغاز الصخري الأميركي خلال الأعوام الأخيرة، فعلت فعلها في حل أزمة الإدمان الأميركي على النفط الخليجي، يبدو أن الأزمة الأوكرانية وتبعاتها أعادت الاعتبار إلى عنصر النفط في قلب معادلة العلاقات الأميركية السعودية.
على المقلب الآخر، لا يبدو أن ابن سلمان في وارد التسليم بالرضوخ للضغوط الأميركية دون أثمان. وتنقل مصادر مقربة عن ولي العهد، أن الحاكم الفعلي للسعودية يرى أن إهمال بلاده من قبل الإدارة الأميركية الحالية سيعود بتبعات سيئة على الرئيس بايدن، ويمكن أن يشكل نافذة ذهبية لخصوم واشنطن، كالصين وروسيا.
وفي دلالة على حجم التباين بين ولي العهد والإدارة الأميركية، فقد أجاب ابن سلمان، ولدى سؤاله، خلال مقابلة مع مجلة “ذي أتلانتيك” في نيسان/ أبريل الماضي، عما إذا كان الرئيس بايدن قد أساء فهمه في ملف مقتل خاشقجي، بأنه “وبكل بساطة، لا يولي اهتمامًا بالمسألة”.
وفي حين رشحت عن الصحافة الأميركية أنباء تفيد بأن الرئيس بايدن سيحاول تجنب التقاط صورة له مع ابن سلمان، ترى الباحثة في “معهد كارنيغي للسلام الدولي”، ياسمين فاروق أن زيارة بايدن إلى الرياض في حد ذاتها، يمكن عدّها تشكل “انتصارًا” للأمير على الرئيس.
ماذا يريد بايدن وبأية شروط؟
على جدول أعمال الرئيس الزائر إلى الرياض، يأتي ملف النفط، كبند تقليدي، ومحاولة إقناع المسؤولين السعوديين بزيادة الإنتاج النفطي للمملكة، بسبب تطورات الوضع في أوكرانيا. في المقابل، ترغب الإدارة الأميركية في تقديم عرض مغر للجانب السعودي، يقوم على رفع الحظر على مبيعات الأسلحة الأميركية الهجومية للرياض لإتمام صفقة المقايضة. وبالفعل، بدأت مناقشة الفكرة داخل أروقة واشنطن قبيل زيارة الرئيس بايدن، ذلك أن القرار النهائي في هذا الخصوص، سيعتمد على مدى تجاوب الرياض مع المطالب الأميركية، من ضمنها مطالب تشمل السير في خطوات جدية نحو تسوية سياسية وسلمية للحرب في اليمن. فعلى مدى الأشهر القليلة الماضية، عقدت عدة لقاءات رفيعة المستوى بين مسؤولين سعوديين وأميركيين بهدف إنهاء حظر الأسلحة، بما يتيح للسعودية تجديد مخزونها من المعدات العسكرية والذخائر، بخاصة ترسانتها من الصواريخ جو- أرض. وبحسب مصادر أميركية، فإن المناقشات بين الرياض وواشنطن بشأن رفع حظر الأسلحة الهجومية لا تزال في مراحلها الأولى، في انتظار ما سوف تؤول إليه محادثات بايدن لدى لقائه مع قادة المملكة حين يحط رحاله في الرياض، واتضاح نظرته لما أسماه “إعادة ضبط” العلاقات مع حلفائه الخليجيين.
الملف الآخر الذي سوف يبحثه بايدن في العاصمة السعودية، يرتبط بـ “ترسيخ العلاقات الأمنية” مع تل أبيب. ويتوقف محللون غربيون عند مسار رحلة الرئيس الأميركي من الأراضي المحتلة، باتجاه السعودية لإعطاء دلالة رمزية واضحة على أن الهدف الرئيسي للزيارة الرئاسية تتعلق بدمج “إسرائيل” في المنطقة من خلال “حلف عربي- إسرائيلي” لمواجهة إيران.
وقد حفلت الفترة السابقة لموعد زيارة بايدن إلى الشرق الأوسط، بالعديد من الأنباء بشأن دعم واشنطن إقامة “حلف ناتو شرق أوسطي”، يضم “إسرائيل”، ودول الخليج بصورة أساسية إلى جانب مصر، والأردن. المؤشر الأبرز في هذا السياق، هو ما تناقلته تقارير غربية حول اجتماع أمني سري عقد في مدينة شرم الشيخ المصرية، بين مسؤولين عسكريين عرب و”إسرائيليين”، شارك فيها للمرة الأولى رئيس أركان الجيش السعودي. وتنقل صحف عبرية، عن دوائر المؤسسة الأمنية “الإسرائيلية” قولها إن الإدارة الأميركية عمدت مؤخرًا إلى التمهيد لزيارة بايدن إلى “إسرائيل”، والسعودية، من خلال تقديم تسهيلات مشجعة لرفع مستوى التفاعلات بين الجانبين، لا سيما على الصعيدين الأمني والعسكري، وهو ما تبينه تقارير حول اهتمام عدد من دول مجلس التعاون الخليجي بشراء معدات عسكرية “إسرائيلية” الصنع. وبحسب تلك الدوائر، فإن ملف التطبيع بين الدولة الخليجية و”إسرائيل” يتطور “بصورة تدريجية”.
اتفاقية أمنية بين الرياض وواشنطن؟
درج المحللون في الآونة الأخيرة على تشبيه علاقة السعودية بالولايات المتحدة، بالزواج الهش. هذا بالضبط، ما ذهب إليه الدبلوماسي الأميركي السابق دنيس روس، مشبّهًا واقع هذه العلاقات اليوم بـ “الحبيبة التي هجرها شريكها”، مشيرًا إلى أن الرياض تتساءل عن سبب تجاهلها من قبل حليفتها الكبرى. من جهته، يرى نائب رئيس قسم الدراسات السياسية بريان كاتوليس، أن “العلاقات بين الولايات المتحدة والسعودية، إذا جاز وصفها بالزواج، بحاجة ماسة إلى مشورة خبير في العلاقات”. وفي مطلق الأحوال، تتسع دارة التكهنات وتضيق بشأن المطالب والمطالب المضادة للشريكين، إلا أن ثمة من يشير إلى وجود توجس سعودي حقيقي من النفوذ الإقليمي المتزايد لإيران. الحل الذي تقترحه الرياض لتلك الهواجس مرتبط بضمانات أمنية توفرها واشنطن. ويرجح محللون أن يلتقي بايدن لدى زيارته الرياض “زعيمًا سعوديًا حازمًا، يعرف أن لديه شيئًا تحتاجه الولايات المتحدة، ويرغب في الحصول على شيء في المقابل”. وعلى نحو أكثر تحديدًا، توضح الباحثة في “معهد كارنيغي للسلام الدولي”، ياسمين فاروق أن مطالبات ولي العهد السعودي تشمل “الحصول على ضمانات أمنية بصورة رسمية أكثر وضوحًا”، أو “توثيق التعاون الثنائي، بمجالات لا تنحصر بالنفط”. ووفق فاروق، “يرغب السعوديون بأن يُعاملوا كشركاء للولايات المتحدة، بحيث يمكنهم الخوض في مناقشات معها بشأن مسائل لا تتعلق حصرًا بالنفط، والأمن، بل تتعداها إلى مسائل التكنولوجيا، والمناخ والطاقة”، مع التشديد على أنه “في حال كُلّلت الزيارة بالنجاح في التوفيق بين مطالب الجانبين، فإن تطوير أشكال هذا التعاون سوف يستغرق وقتًا”.
حلف عسكري عربي- “إسرائيلي”: هل بدأ التدشين العملاني لمهامه؟
واقع الأمر، أن ما يشاع عن قيام “حلف عسكري” بين دول عربية، و”إسرائيل” يتزامن مع انكفاء الولايات المتحدة عن المنطقة، بعدما ظلت لعقود طويلة الضامن الأمني لحلفائها. وفي هذا الإطار، تلفت صحيفة “الغارديان” إلى أن هذا النهج الأميركي دفع “الإسرائيليين”، أسوة بالسعوديين الى استكشاف “بدائل أمنية” في مواجهة عدوهما المشترك، إيران. من هنا ولدت فكرة ما بات يعرف بـ “ناتو الشرق الأوسط”. وبحسب مسؤولين خليجيين، فإن فكرة التعاون العسكري بين دول الخليج، وتل أبيب، ولدت في ظل احجام الولايات المتحدة عن مساندة حلفائها في مواجهة “التهديد الإيراني”. بدوره، يعتبر أستاذ العلوم السياسية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، عبد الخالق عبد الله، أن “الأميركيين غير راغبين في القيام بهذه المهمة”، في إشارة إلى التصدي لإيران، ملمحًا إلى أن الدول الخليجية لم يكن يخالجها الشك في مدى الالتزام الأميركي بأمنها، قبل أن يتبين لها العكس.
وعلى الجانب “الإسرائيلي”، كان لافتًا إعلان وزير الأمن بيني غانتس، مؤخرًا بأن ما وصفه بـ “تحالف الدفاع الجوي الشرق أوسطي”، نفذ مهامًا عملانية، زاعمًا إسقاط التحالف المذكور طائرة مسيّرة إيرانية في الأجواء العراقية، كانت في طريقها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وتشير الصحيفة البريطانية، إلى أن الأطراف المشاركة في قمة شرم الشيخ الأخيرة، تطرقوا إلى تعزيز التنسيق على مستوى أنظمة الإنذار السريع ضد التهديدات الجوية، فضلًا عن مناقشة تنسيق آليات اتخاذ القرار في هذا الخصوص، موضحة أن “قوننة التعاون العسكري المشار إليه، سوف يحتاج إلى موافقة القيادة السياسية للبلدان المعنية”. ومن منظور الصحيفة، فإن بعض الدول الخليجية تشعر بالقلق من إضفاء الطابع الرسمي على أي آليات تعاون أمني مع الجانب “الإسرائيلي”، خوفًا من “حشر إيران في الزاوية”، وما قد يترتب عن ذلك من رد إيراني.
المقايضة بين التطبيع و”عملية السلام” بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”
وفي ظل دفع الرئيس بايدن إلى استكمال إرث الإدارة الأميركية السابقة، على صعيد “التطبيع”، يشكل الإعلان الوشيك عن الولادة الرسمية لـ “ناتو شرق أوسطي”، بمشاركة “إسرائيلية”، حلمًا أميركيًا قديمًا. ومع ذلك، يبدو أن تحقيق هذا الحلم، دونه عقبات. على هذا الأساس، يقول الباحث في “مركز تشاتام هاوس للبحوث”، يوسي ميكيلبيرغ، أن “ملف التطبيع يحمل في طياته مغزى كبيرًا” على صعيد العلاقات العربية- “الإسرائيلية”. ويضيف الباحث أنه، ورغم تراجع مكانة القضية الفلسطينية على سلم أولويات كافة الأطراف، لا سيما الحكومات العربية نفسها، لا يمكن لتلك الحكومات حتى الآن الانخراط بشكل فاعل في علاقات مع “إسرائيل”، إلى حين التوصل إلى تسوية سلمية لهذه القضية. وبحسب ميكيلبيرغ، فإنه بمجرد التوصل إلى “تسوية سلمية” بين الفلسطينيين و”الإسرائيليين”، عندها يمكن إخراج تلك الإجراءات “التطبيعية” على المستويات الأمنية، من الكواليس إلى العلن. ومن منظور الباحث، قد يكون المشروع، الذي ترعاه واشنطن، والرامي إلى تدين حلف أمني عسكري بين دول عربية، و”إسرائيل”، “لا يعدو كونه مجرد كلام، وربما لن يكون قابلًا للتحقق أبدًا”، موضحًا أنه في مطلق الأحوال، “لن يكون ممكنًا تجاهل الفلسطينيين” في هذا الملف، مستدلًا بما يشاع حول تمسك الرياض بـ “مبادرة السلام العربية” التي تطالب بإنهاء الاحتلال مقابل التطبيع. بدوره، يرى الأستاذ الجامعي، والمحاضر في الدراسات الدولية بجامعة بيرزيت، غسان الخطيب أن “توقعاتنا بشأن زيارة بايدن (إزاء “عملية السلام” بين الفلسطينيين والإسرائيليين) متواضعة”، مضيفًا أن “الإدارة الجديدة لديها خطاب مختلف، إلا أنها لم تبتعد من الناحية العملية عن نهج سابقتها”.
المصدر: موقع الناشر