اليوم الأول للحرب على لبنان كان كصفعةٍ لم يستفق منها القلب بعد. الشمس طلعت بخجلٍ خلف غيومٍ من دخان، والهواء كان صدره مثقل برائحة البارود والاحتراق. كنت هناك، أفتح عيني على بلدات وقرى تغيّرت ملامحها في ساعات قليلة، وكأنها شاخت فجأة.
الأبنية التي كانت تملأ المكان حياةً تحولت إلى ركامٍ صامت، والشوارع التي ضجّت يومًا بأصوات الأطفال صارت مقابر صغيرة مفتوحة على السماء. في كل زاوية كان ثمة مشهد لا يُحتمل: شهداء جرحى…
يدٌ صغيرة بارزة من تحت الحجارة، وصوت امرأة تنوح باسم مفقودٍ لا يسمع صداها سوى هي.
رأيت الشهداء ينامون بسلامٍ غريب وسط الفوضى، كأنهم عرفوا سرًّا لم نعرفه نحن الأحياء بعد. أما الأشلاء الممزقة فكانت تروي حكاية قسوة لا لغة تكفيها، حكاية تُشعر كل من ينجو أنّ الحياة بعد ذلك اليوم ليست امتيازًا بل عبئًا.
كنتُ أسمع أنين الناس وأشعر بأن الوطن نفسه يئنّ، وأن الأرض لا تتسع بعدُ لدموعنا. لم يكن ذلك اليوم مجرد بداية حرب، بل بداية انكسار في الروح، انكسار يجعلنا نحمل الذاكرة معنا كجرح مفتوح أينما ذهبنا.
في ذلك اليوم أدركت أنّ الحرب ليست معركةً بين جيوش فحسب، بل امتحانٌ للإنسان فينا، امتحانٌ لمدى قدرته على أن يظل واقفًا وهو يرى الموت يمرّ من أمامه بلا استئذان. كنتُ هناك، وشاهدتُ كل ذلك، ومنذها صار في داخلي يقينٌ واحد: أنّ الذاكرة قد تتحمل كل شيء إلا مشهد الأشلاء حين تُترك بلا وداع …
صدر داوود
23/9/2025