عماد مرمل
تعامل رئيس الحكومة حسّان دياب بأعصاب باردة مع الهجمات السياسية الحادّة التي تعرّض لها اخيراً من ركني المعارضة، رئيس «تيار المستقبل» سعد الحريري وزعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط. وما ساعده في ذلك ليس فقط طبعه الشخصي، بل أيضاً شعوره بأنّ لا شيء لديه ليخسره اساساً، واقتناعه بأنّ «بيوت خصومه هي من زجاج».
عندما دخل دياب «الأكاديمي» إلى السراي الحكومي قبل أشهر قليلة، لم يكن معه سوى عائلته وبعض المستشارين، وبالتالي لم يكن لديه اي رصيد جماهيري يخاف عليه أو يستند اليه.
مع مرور الوقت وتلاحق الاستحقاقات، بدأ يظهر تباعاً نوع من التعاطف مع شخص دياب وخياراته، وصار هناك في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي من يؤازره ويدافع عنه. ربما لا يزال من المبكر الكلام على قاعدة شعبية لرئيس الحكومة.
يعتبر القريبون من دياب، انّ «الاتهامات التي يوجّهها خصومه اليه لا تجد صدى كبيراً لدى الناس، انطلاقاً من انّ همومهم في مكان آخر اصلاً، إضافة إلى أنّ صدقية مطلقيها تراجعت كثيراً، لأنّهم مجرّبون لعقود في السلطة، واللبنانيون يحمّلونهم المسؤولية عن الانهيار المالي والاقتصادي».
ويؤكّد زوار السراي، انّ دياب مرتاح الى مسار الأمور، وثابت على قراره بعدم التراجع او الضعف امام الحملات مهما اشتدت، «وهو يدعو الآخرين في السلطة والطبقة السياسية إلى أن يتعوّدوا عليه وان يتكيّفوا مع سلوكه، الذي لا يشبه ما كان يفعله اسلافه، لجهة الخوض في التسويات والمحاصصات».
واذا كان دياب مُتهماً من قبل معارضيه، خصوصاً الحريري وجنبلاط، بأنّه خاضع لنفوذ رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، فإنّ المحيطين برئيس الحكومة يكشفون ان لا تفاعل بينهما منذ تشكيل الحكومة، الّا ضمن نطاق ضيّق، حيث انّ الأمر اقتصر حتى الآن على تواصل محدود لثلاث مرات تقريباً.
ويؤكّد هؤلاء، ان ليس دياب من يلحق بـ»التيار الحر» بل «التيار» هو الذي لحق به واقترب من طروحاته، مشيرين إلى أنّ دياب من اصحاب منطق بناء الدولة، حتى قبل أن يصل إلى رئاسة الحكومة.
وفي معرض إثبات «استقلاليته»، يلفت القريبون من دياب، الى انّه وقّع عدداً من مراسيم الناجحين في امتحانات مجلس الخدمة المدنية، «بعدما علاها الغبار في ادراج الحريري أثناء توليه رئاسة الحكومة ورفض التوقيع عليها، بحجة مراعاة موقف الرئيس ميشال عون وباسيل، اللذين يعارضان إقرار تلك المراسيم ربطاً بمعيار التوازن الطائفي»، علماً انّ هناك من يهمس بأنّ توقيع دياب لم يلق ارتياحاً لدى باسيل.
ويعتبر المدافعون عن رئيس الحكومة، انّ «الحريري هو آخر من يحق له اتهام دياب بالتماهي مع باسيل، بعدما كان شريك رئيس التيار في التسوية الشهيرة ومفاعيلها، وكان يتساهل معه ويلبّي كثيراً من طلباته، وهو بالتالي آخر من يحق له الكلام حول صلاحيات رئاسة الحكومة التي فرّط بها خلال وجوده في السراي، إلى درجة انّ زملاءه الحاليين في نادي رؤساء الحكومات السابقين، كانوا يأخذون عليه تهاونه في حماية صلاحياته».
بالنسبة إلى أنصار دياب، ما يفعله الرجل أنّه، وخلافاً لما يروّجه خصومه، يعيد الاعتبار والوزن الى موقع رئاسة الحكومة، ويرمّم ما تصدّع في جدران السراي. لافتين الى انّ دياب كان يتمنى التعاون مع الحريري، «لكن رئيس تيار المستقبل اختار المواجهة، في محاولة لشدّ عصب قاعدته المتراخي وإعادة استنهاضها» (…).
وحول مسعى دياب للتوزير، عندما كان لا يزال اسم الحريري مطروحاً لرئاسة الحكومة، يقول القريبون من دياب ان «ليس صحيحاً انّه زار الحريري عارضاً توزيره، والحقيقة هي انّ رئيس تيار المستقبل، وبعد فترة من تقديم استقالته، هو الذي طلب بإلحاح الاجتماع مع دياب الذي التقاه في بيت الوسط، بناءً على دعوة منه، وخلال اللقاء لا الحريري عرض ولا دياب طلب التوزير، ولم يتمّ بتاتاً التداول في هذا الأمر».
وفيما تفيد بعض المعلومات، انّ الحريري طلب عدم التعرّض لأي من الموظفين المندرجين تحت مظلته، يجزم المحيطون بدياب انّه لا يتصرّف على اساس الانتقام او التشفي، «وهذا ليس وارداً في حساباته وقاموسه، كما يتبيّن من تجنّب الاستهداف الكيدي لأي موظف من المحسوبين على الحريري او الذين يحظون بدعمه. ولعلّ العلاقة الجيدة بين دياب ومدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان، هي أكبر دليل على ذلك. اما المواجهة التي وقعت مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فلم تحصل لانّه مصنف في خانة الحريرية وإنما بسبب سياساته المالية والنقدية».
ودياب المُتهم بأنّه يسعى إلى تنفيذ انقلاب على توازنات ومعادلات ما قبل استلامه رئاسة الحكومة، يشعر بأنّه هو الذي كان هدفاً خلال الأسابيع الماضية «لانقلاب مالي ببطانة سياسية»، فكان قراره بالانتقال «من الدفاع الى الهجوم لإحباط هذا المخطط».
ودياب مقتنع بأنّ ارتفاع سعر الدولار الى ما فوق الأربعة آلاف ليرة كان مفتعلاً ومتعمّداً لتحريض الشارع ضده واسقاطه، وهذا ما دفعه الى قلب الطاولة على الذين يظن انّهم نصبوا له «كمين الدولار» بقصد الاغتيال السياسي، فصوّب مباشرة وعلانية على حاكم البنك المركزي وحمّله مسؤولية التلاعب بسعر الصرف، لتتغيّر بعد ذلك وجهة عاصفة الغضب وتستدير في اتجاه سلامة، بعدما كان يُراد لها ان تهبّ على دياب حصراً.
وما قاد دياب الى خوض مواجهة علنية مع سلامة، اصداره «التعاميم المريبة» التي ادّت، في رأي رئيس الحكومة، الى تجفيف آخر منابع العملة الصعبة. ومن هذه التعاميم إلزام الشركات المالية بقلب التحويلات بالدولار الى الليرة وقيمتها التقريبية هي 65 مليون دولار شهرياً، بالترافق مع مبادرة مصرف لبنان الى سحب سيولة المصارف من الدولار، ما تسبّب في ندرة وجوده في السوق وتزايد الطلب عليه مقابل عرض ضئيل، الأمر الذي افضى الى تفلّت سعره من الضوابط.
والسيطرة على سعر الصرف تتطلّب من الحاكم، في رأي اوساط دياب، ضخ مليار دولار في السوق، وتعديل التعاميم التي اصدرها وادّت الى نتائج سلبية.
حسابات الحريري
اما في بيت الوسط، فالصورة مغايرة كلياً، والنظرة الى دياب اختلفت كثيراً عمّا كانت عليه عند تكليفه، حيث تدرّجت من التحفّظ المدروس الى الاعتراض الصريح.
في البداية، قرّر الحريري ان يعطي الوافد الجديد الى نادي رؤساء الحكومات فرصة، وبعد تشكيل الحكومة مدّد رئيس «المستقبل» تلك الفرصة وقتاً اضافياً، وإن يكن قد شعر من حيث المبدأ بأنّ معالم التركيبة الوزارية، والتوازنات السياسية التي تتحكّم بها ليست مريحة.
ويلفت مؤيّدو الحريري، الى انّ من المؤشرات التي عكست واقعيته في التعاطي مع الحكومة ورئيسها من دون إطلاق أحكام مسبقة، مبادرته قبل فترة الى الإشادة بالإجراءات التي اتُخذت لمواجهة «كورورنا» ولاستعادة المغتربين، متحرّراً من اي حساسية او تشنج حيال دياب.
لكن التعايش الهش بين الحريري ودياب لم يصمد طويلاً، إذ انّه سرعان ما ترنّح على وقع رفض الحريري مواقف دياب، التي شكت من التركة الثقيلة وحمّلت الخيارات المالية والاقتصادية على امتداد ثلاثين سنة، مسؤولية انفجار الأزمة الحالية، في تصويب ضمني على السياسات الحريرية.
ثم انهار هذا التعايش بعد الهجوم العلني الذي شنّه دياب على حاكم مصرف لبنان، محمّلاً ايّاه جزءاً واسعاً من تبعات الانهيار المالي والارتفاع في سعر الدولار.
أحسّ الحريري بأنّ استهداف دياب لسلامة هو تجاوز للخط الأحمر، وتهديد مباشر للحريرية السياسية والاقتصادية المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع «الحاكم».
والأهم من ذلك، يعتبر فريق الحريري، انّ المقصود من الحملة على سلامة، وما يمثّل من اتجاهات اقتصادية ومالية، ليس سوى إدانة «تيار المستقبل» ومحاكمته على تجربته في السلطة، «ضمن إطار الكيدية السياسية وتحوير الحقائق، بغية تلبيس مسؤولية الانهيار لطرف وتبرئة قوى أخرى كانت شريكة في السلطة والقرارات، اقلّه منذ 15 عاماً».
من هنا، افترض الحريري انّ حاكم مصرف لبنان هو خط الدفاع الأول في المواجهة المبكرة، ليس فقط مع دياب، وإنما بالدرجة الأولى مع من يقف خلفه ويحرّضه، وبالتالي في رأيه، انّ السماح بإسقاط سلامة سيسهّل الانقضاض على شبكة التوازنات المترابطة.
وعليه، يشير المتحمسون للحريري، الى انّ «الخشية هي من ان يتلطّى العهد والتيار الوطني الحر خلف دياب لتصفية حساباتهما مع الحريري والانتقام منه، وللإخلال بالتوازنات الداخلية، عبر تطويع مركز رئاسة الحكومة وتجاوز صلاحياته، بحيث يكون دياب كناية عن حصان طروادة لاختراق السراي الحكومي والبيئة السنّية».
وبناءً على هذه المقاربة، يعتبر هؤلاء انّ «المعركة الأساسية هي ضد جنوح العهد والتيار نحو نسف قواعد اتفاق الطائف وإحياء انماط في الحكم تنتمي إلى حقبة ما قبل الاتفاق الذي هو دستور الجمهورية الثانية، بالترافق مع تبرّع دياب بتأمين التغطية لهذا السلوك، الذي يشكّل لقاء بعبدا غداً احد نماذجه التطبيقية».
باختصار، يبدو واضحاً انّ العلاقة بين دياب والحريري محكومة حتى إشعار آخر بمعادلة «القلوب الملآنة والخزينة الفارغة».
الجمهورية