هذه المرة، كانت الصفعة مرئية، فقررنا أن نعتبرها الأفدح. تأتي طائرة عسكرية أميركية، تحط في السفارة في عوكر، لتنتشل عامر الفاخوري على طريقة أفلام هوليوود التي تحكي قصص جنود جيش الاحتلال الأميركي الذين يتم إنقاذهم من «خلف خطوط العدو». هي عملية كاملة، يمكن مدير محطة الـ«سي آي ايه» في لبنان أن ينال تهنئة عليها. جهود مشتركة بين الاستخبارات المركزية (والاستخبارات العسكرية في المرحلة الأخيرة) ووزارة الخارجية ومكتب الأمن القومي وأعضاء في الكونغرس تكلّلت بالنجاح. استعاد الأميركيون عميلهم وعميل «إسرائيل» من لبنان، بلا أي خسائر. خسائر عملائهم في لبنان لا تزال في أدنى مستوياتها. وبدل أن توجّه السهام إلى هؤلاء، سخّر القدر إلى حد أن العملية وضعت المقاومة في قفص الاتهام. صار على الفريق الذي قضى كل عمره السياسي والعسكري في مقارعة العدو الإسرائيلي والأميركي، والذي تضعه الولايات المتحدة في الخانة الأولى من جدول أعدائها، وترى فيه «إسرائيل» خطراً استراتيجياً، وتعاقب واشنطن أي مشتبه بوجود صلة له مع من له صلة به، بات عليه أن يدافع عن نفسه.
ربحٌ أميركي إضافي حققته العملية التي نُفِّذَت، فيما حزب الله مطمئن إلى وعود تبرّع بها رئيس المحكمة العسكرية الدائمة (مجدداً، لا أحد يعلم لماذا هي «دائمة» فيما هي محكمة استثنائية) العميد حسين العبدالله ــــ من تلقاء نفسه، من دون طلب من أحد ــــ بأنه لا يمكن أن يرضخ للضغوط التي تطالبه بالإفراج عن العميل عامر الفاخوري. وهذه الوعود ظل يكررها أمام قضاة وضباط حتى ما قبل ظهر يوم الجمعة الفائت (وهو سعى في اليومين الماضيين الى البحث عن دعم له من مرجعيات عدة، عسكرية وأمنية وسياسية وحتى دينية).
الصفعة مدوية في لبنان. لا شيء يكشف زيف «الدولة» أكثر من مشهد طائرة تحط في عوكر، وتقلع بعد خمس دقائق، لتحرر الفاخوري من «سجنه»، سوى عدم صدور أي تعليق من أي مسؤول رسمي لبناني على ما جرى. لم يردّ أحد الشكر الذي وجّهه دونالد ترامب لـ«الحكومة اللبنانية على تعاونها بشأن الإفراج عن عامر الفاخوري». أحد الوزراء طالب يوم الثلاثاء الماضي بتوضيح ملابسات الإفراج عن الفاخوري. لكن جلسة مجلس الوزراء انعقدت أمس، بعد هبوط الطائرة الأميركية في السفارة ورحيلها، من دون أن يكلّف أحد نفسه عناء التفسير. الجيش رأى نفسه غير معني. سرّب أن الأميركيين أبلغوا المؤسسة العسكرية بأن طائرة ستهبط في عوكر للتزود بالوقود، قبل أن يركن إلى تفسير مفاده أن الطائرات الأميركية تهبط في عوكر وفي مطار رفيق الحريري وفي قاعدة «وج الحجر» (حامات) وفي رياق، من دون إذن مسبق من الجيش، بل بقرار يصدر عن مجلس الوزراء مرة كل ستة أشهر. أين القرار؟ لم تظهر نسخة منه بعد. لاحقاً، قيل إن الطائرات الأميركية تدخل المجال الجوي اللبناني، وتحطّ على الأراضي اللبنانية، من دون إبلاغ أحد. وبعد ذلك، يستحصل الجيش على موافقة مجلس الوزراء، «على سبيل التسوية».
واقع الحال يُظهر أن إخراج الفاخوري، على فداحته، ليس سوى رأس جبل الجليد. وإذا جاز صرف النظر عن قدر الإهانة غير المسبوقة للروح الوطنية (هل في لبنان شيء ما يجوز إطلاق هذه التسمية عليه) الذي تسبّب به، فإنه يبقى الأقل خطراً. الأميركيون يحتلون نظامنا المالي، ويحددون لنا من علينا تعيينه حاكماً لمصرف لبنان، ومن علينا تعيينه نائباً للحاكم. والقضاء اللبناني يتعامل مع الأجهزة الأمنية الأميركية بصفتها «ضابطة عدلية». يكفي أن تُرسِل «الخزانة» رسالة إلى مصرف لبنان، عن لبناني مشتبه في حركة أمواله، ليحاكمه القضاء اللبناني بالتهم التي توجهها له «الضابطة العدلية» في نيويورك أو واشنطن. ما تقدّم معروف، إضافة إلى غيره من القطاعات التي تحتلها الولايات المتحدة في لبنان، أو تسيطر عليها، أو تتحكّم بها تمام التحكم. لكن ما هو مجهول، وما لا يُحكى به لا من قريب ولا من بعيد، هو ما يجري «في الخفاء»، عسكرياً.
في شباط عام 2017، أعلنت شركة «بارسنز» (Parsons، مقرها ولاية كاليفورنا) أنها فازت بمناقصة أجرتها «الوكالة الأميركية للحد من التهديدات الدفاعية» (DTRA)، لـ«تأمين الحدود مع سوريا، لمصلحة الجيش اللبناني». في تلك الفترة، كان البريطانيون يموّلون إقامة أبراج للمراقبة على طول الحدود بين البقاع من جهة، وحمص وريف دمشق من جهة أخرى. وفي مقر قيادة الجيش في اليرزة، ينعقد بصورة دورية اجتماع بين ما يُسمى «لجنة الإشراف العليا على برنامج المساعدات الأميركية والبريطانية لحماية الحدود البرية»، برئاسة قائد الجيش، وحضور السفيرين الأميركي والبريطاني. حماية الحدود البرية من أي خطر؟ لماذا الأمر محصور بالحدود مع سوريا؟ من قرّر هذا البرنامج؟ ومن اختار الحدود الشرقية والشمالية؟ بعد اندحار «داعش» وإخوته من المنطقة الحدودية، من الذي ارتأى أن هذه هي الأولوية الدفاعية؟ من أوهم قائد الجيش (الحالي والسابق) بأنه يحدد السياسة الدفاعية للبلاد؟ ومن أقنعه بأن الحليفين الأوثق لعدوّنا الأول يحق لهما أن يكونا شريكين في رسم سياستنا الدفاعية، فيما هما شريكان في كل عدوان على لبنان؟
الأسئلة تكشف واقعاً أكثر خطورة. إذ علمت «الأخبار» أن شركة «بارسنز» بدأت (قبل اندلاع أزمة كورونا) العمل لنشر أجهزة رادار ومراقبة على طول الحدود اللبنانية السورية. وأن مشروع الـ DTRA يتمدد من أجل إقامة شبكة رادارات على طول الشواطئ اللبنانية. والكارثة أن كل ذلك يجري من دون علم وزارة الدفاع، ومن دون موافقة مجلس الوزراء. تُضاف إلى ما سبق معلومات تفيد بأن الـ DTRA لديها مشروع لإقامة نظام رادارات بحرية في قبرص، مشابه للنظام المنوي إقامته في لبنان، على أن يتم الربط بينهما مستقبلاً، في إطار «نظام مشترك لمراقبة شرقي المتوسط» يجري ذلك من دون أن يعرف أحد في الدولة اللبنانية، أو بتجاهل تام من الجميع.
الوقاحة الأميركية في لبنان لا تقف عند حد. الطائرة التي «انتشلت» الفاخوري أمس لم تكن الاختراق الأميركي الوحيد للسيادة اللبنانية الذي يمر بلا أي تعليق رسمي. الطائرات المسيّرة عن بُعد، التي يقول الأميركيون إنهم «وهبوها» للجيش اللبناني، وتُسيّر من رياق وحامات، تنطلق أحياناً كثيرة من دون إذن قيادة الجيش. مرجع عسكري نفى ذلك سابقاً، مؤكداً أن الرادارات التابعة لمنظمة الـ S400 الروسية في سوريا جعلت «المسيّرات» الأميركية في لبنان بلا جدوى، بسبب الإطباق عليها إلكترونياً كلّما حلّقت في الأجواء اللبنانية. لكن قوله هذا يتناقض مع معلومات وصلت إلى وزير سيادي، تؤكد أن الأميركيين سيّروا طائرات فوق السلسلة الشرقية، انطلاقاً من لبنان، ومن دون علم الجيش. وآخر تلك «الرحلات» المثبتة جرت في الثامن من كانون الثاني الماضي فوق السلسلة الشرقية.
ما تقدّم هو بعض ما يدور في «الخفاء». الطائرة التي حطّت في عوكر أمس، ليست «مقطوعة من شجرة». بل هي حلقة في سلسلة من الاستهانة الأميركية بالسيادة اللبنانية. وللمزيد من الدقة، ليست استهانة، ولا استباحة. يتصرّف الأميركيون في لبنان على أنه «شبه مستعمرة»، أقرب إلى بورتوريكو منها إلى أي دولة أخرى في العالم، مع فارق جوهري أن في لبنان قوة لا تزال تحول دون الهيمنة الأميركية التامة. وعلى تلك القوة وحدها يمكن التعويل لكي لا يكون لبنان «بورتوريكو الشرق».
حسين عليق – الاخبار