بعد 14 عاماً على عدوان تموز، انقلب المشهد بين بيروت والجنوب. «عدوان آب 2020» المتمثل في انفجار مرفأ بيروت تسبّب في ثوانٍ بما تسبّب فيه العدوان الإسرائيلي حينذاك في ثلاثة وثلاثين يوماً في أحياء وقرى ومدن جنوبية. صحيح أن الترددات المادية لزلزال «بيروت» اقتصرت على دويّ سُمعت أصداؤه في صيدا والنبطية والزهراني حتى حدود صور، لكنه غار في جرح الجنوبيين المفتوح عميقاً ليحيي، بعد 14 سنة، مشهد تشييع الشهداء بعد انتهاء العدوان في 14 آب.
لم تكن علاقة الجنوبيين بمرفأ بيروت طيبة ومتكافئة يوماً. لطالما ارتبط «البور»، كما يُعرف جنوباً، بزمن القهر والتهميش حينما اضطر بعض أهل القرى إلى النزول إلى العاصمة والبحث عن القوت المتعذّر في أرضهم. المهنة التي مرّ عليها كثيرون من جيل ما بعد الاستقلال كانت حمل البضائع. حالياً، لم يعد أحد منهم يعمل في «العتالة»، لكنّ مصيرهم في هذا البلد لم يختلف، مهما اختلفت أحوالهم. الشهيد محمد علي عباس (46 عاماً) من السكسكية، ورث مهنة والده في «البور». كان ضمن فريق الحرس والإطفاء، وكان يتنقل بشكل شبه يومي بين مركز عمله ومنزله في مسقط رأسه على بعد نحو ساعة ونصف. بسبب المرفأ، عاش عباس في ظروف متواضعة، وهكذا نشأ أطفاله الثلاثة (أكبرهم عمره 12 عاماً). بين بحر السكسكية حيث يقع منزله وبحر المرفأ حيث عمله، تنقّل عباس عشرين عاماً حتى قضى نحبه. أحد أقربائه يختصر ما حصل بـ«مصيبة». يئن على حال يتامى عباس، ويلعن «البور» وساعة «البور».
حتى ليل أمس، كان عدد شهداء الجنوب في انفجار المرفأ قد رسا على تسعة في مقابل عشرات الجرحى وعدد من المفقودين. الصوانة والسكسكية وحاروف والنميرية وصربا وروم والمطرية، تسلّمت جثامين أبنائها الذين حُسم مصيرهم بين الشهداء. بالنسبة إليها، تلك مصيبة أهون من فاجعة برج رحال التي كانت حتى ليل أمس لا تعرف مصير ابنها عماد زهر الدين. «الموت أهون من فقد الأثر»، قالها عدد من أهالي الشهداء الذين شيّعوا أبناءهم أمس. ساعات قليلة العدد وطويلة الأثر، عاشوها وهم يبحثون عنهم في المستشفيات وتحت الأنقاض. الملازم أول في الجيش أيمن نور الدين من النميرية، الذي يخدم داخل المرفأ، ونيكول الحلو من صربا، التي تعمل في فرع أحد المصارف في الجميزة، والمفتش أول ممتاز في الأمن العام جو حداد من روم، الذي يخدم داخل المرفأ، والمهندس إياد الأمين من الصوانة، والموظف في المرفأ حسن المانع من المطرية، وزميله محمد علي عباس والمهندس علي أيوب من حاروف، الذي قضى وهو يتناول الغداء في أحد مطاعم الجميزة مع زوجته ملاك بظاظا التي توفيت لاحقاً متأثرة بإصابتها، تاركَين خلفهما طفلين.
نكبة عائلة الشهيد محمد أحمد عباس من السكسكية مزدوجة. ابنهم الذي وصل قبل أسبوع من غامبيا الأفريقية محمولاً بسبب إصابته بكورونا، نقل الى مستشفى الروم في بيروت، فيما انتقلت زوجته وطفلاه (يبلغان ٦ سنوات وسنة واحدة) الى تبنين للخضوع للحجر المنزلي. لم تتمكن عائلته الصغيرة والكبيرة من مرافقته في الأيام الماضية حيث كان يخضع للعلاج. لكن انفجار المرفأ الذي ضرب المستشفى أدى الى قطع الكهرباء عن جهاز التنفس المتّصل به. ساءت حالته لدى محاولة نقله الى مستشفى آخر، لكن محاولات إسعافه لم تنجح. صباح أمس، وبعيداً عن أهله أيضاً، دفن في بلدته.
النائب علي خريس ابن برج رحال قصد المرفأ للاطلاع على أعمال البحث عن زهر الدين وزملائه، بمشاركة فرق الإسعاف من الدفاع المدني في اتحادات بلديات الجنوب، الذين تحركوا منذ ليل الثلاثاء للمشاركة في أعمال الإغاثة.
خطط رسمية ومبادرات فردية تزاحمت جنوباً للمؤازرة في إغاثة منكوبي بيروت. وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صور خصّصت ثلاثة مراكز إيواء لمن يرغب من العائلات التي فقدت منازلها ووضعت في خدمة فرق الإغاثة سيارة إنقاذ حديثة مجهزة للبحث تحت الأنقاض ليلاً. في الإطار نفسه، وضعت خلية الأزمة والتكافل الاجتماعي في بلدية النبطية إمكانياتها بتصرف اتحاد بلديات الضاحية، ووضعت برنامجاً لاستقبال العائلات النازحة من بيروت، وفتحت باب التبرع لدعم بيروت. لم تنتظر صيدا نزوح المنكوبين، بل زحفت إليهم عبر المطبخ الشعبي في مستوصف الشهيد رشيد بروم الذي وزّع وجبات ساخنة على المتضررين في الكرنتينا والنبعة. كذلك، شارك فوج الإنقاذ الشعبي في مؤسسة معروف سعد في عمليات الإنقاذ.
وكان عدد من مستشفيات صيدا والنبطية والزهراني وصور قد استقبل عشرات الجرحى ليل الثلاثاء، عقب ازدحام مستشفيات بيروت.
الأخبار