في خضمّ التصعيد العسكري الإسرائيلي المستمرّ ضدّ لبنان “المقاوم”، والذي لم يتوقف رغم صدور القرار 1701 عن مجلس الأمن والقاضي بوقف الأعمال العدائية، ومع تزاحم الدبلوماسيين والسفراء والمبعوثين، يبدو المشهد الحالي للمفاوضات اللبنانية-الإسرائيلية غير المباشرة ساحةً معقّدة لاختبار مدى حيادية الوسطاء الدوليين والإقليميين وموثوقية الضمانات التي يحملونها.
فالطرف الإسرائيلي يتعاطى بعنجهية المنتصر، ساعيًا لفرض شروط تُقارب اتفاق استسلام على الطرف اللبناني، بغضّ النظر عن مجريات الحرب ومدى تحقيق الأهداف المعلنة، في المقابل، يبحث كل وسيط عن مصالحه ودوره، وجميع الوسطاء – باستثناء الولايات المتحدة الأمريكية – يفتقرون إلى القدرة على ممارسة ضغط حقيقي على حكومة العدو أو تقديم ضمانات مستقبلية حقيقية لأي إتفاق ينجز.
أمام هذا الواقع، يصبح أي اتفاق يوافق عليه لبنان مهدداً بالانهيار قبل البحث في مضمونه ، فما هو إذن الواقع الحالي للوساطات؟ وما هو سقف الضمانات الذي سيقبله لبنان؟
أولاً: الحياد المشكوك فيه للدول الوسيطة
يجب البدء بالنظر في الحياد المشكوك فيه للدول الوسيطة، وفي مقدّمتها المحور الغربي الذي يشكّل القوة الدافعة للوساطة.
- الولايات المتحدة الأمريكية (القيادة الغربية):
تقود واشنطن المفاوضات النشطة حاليًا، لكنها لا تعمل كوسيط محايد بأي شكل من الأشكال. هذا واقع ثابت؛ فلطالما كانت إسرائيل هي الأولوية القصوى، واستراتيجيتها التفاوضية برمّتها قائمة على ضمان أمن إسرائيل، وتصبّ في مصلحة تل أبيب قبل أي اعتبار آخر. - فرنسا (البحث عن الدور والمصلحة):
تسعى فرنسا للحفاظ على دورها التاريخي في لبنان، وقد تضاعف اهتمامها مع احتمال وجود الغاز في المياه اللبنانية. ورغم الضغط الذي مارسته لوقف جنون نتنياهو في الحرب الأخيرة، إلا أنها غالبًا ما تضطر إلى التوافق مع الرؤية الأمريكية، كونها ضمن حلف الناتو من جهة وكونها تتأثر بالحرب الروسية-الأوكرانية التي ترمي بظلالها وتؤثّر على كامل أوروبا.
تكمن الورقة اللبنانية الرابحة مع الجانب الفرنسي في استغلال رغبة باريس في استعادة دورها التاريخي في الشرق الأوسط، إذا نجحت في صياغة حل مقبول للأطراف. كما يمكن المزاوجة ضمنيًا بين جزء من الغاز اللبناني مقابل انتشال لبنان من أزمته الأمنية والمالية، فـ “في السياسة، لا أحد يقدّم بالمجّان”.
ثانياً: مقاربة المحور الشرقي (روسيا والصين)
في مقابل الدور الغربي النشط، يعتمد المحور الشرقي المتمثّل بروسيا والصين مقاربة مختلفة. يركّز البلدان على الدعوة إلى الشرعية الدولية ووقف انتهاكات إسرائيل للسيادة اللبنانية ضمن إطار الأمم المتحدة. ورغم أن موقفهما يُعتبر أكثر تعاطفًا مع المطالب اللبنانية، إلا أن دوريهما يظل تحفّظيًا ودبلوماسيًا في الأساس. - يفضّلان استخدام نفوذهما ضمن مجلس الأمن على الانخراط في آليات التنفيذ المباشر على الأرض.
- الصين لاعب كبير يبحث عن تصدّره للعالم وتكريس القطبية الأحادية لها وحدها وتفضل ان يكون ذلك من خلال السيطرة الإقتصادية حتى الآن.
- روسيا تتحرك ضمن مصلحتها وكيفية إنهائها لحربها في أوكرانيا منتصرة، وهي مستعدة لتقديم أي ثمن من خارج “كيسها” مقابل هذا النصر.
ثالثاً: حذر وتراجع الدور العربي والإسلامي
لطالما كان الدور العربي ركيزةً يُراهَن عليها في الأزمات، لكن يبدو أنه لم يعد هناك إجماع عربي على رؤية موحّدة تجاه لبنان. - المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة: يتسم دورهما الحالي بالحذر والابتعاد عن الانخراط المباشر في دعم لبنان سياسيًا في مواجهة إسرائيل. يأتي ذلك في ظل وجود حسابات قديمة مع أطراف لبنانية، ومغازلة تل أبيب استكمالًا للتطبيع والاتفاقيات الإبراهيمية، وقد وصل الأمر إلى تحفّظهما على بيانات الجامعة العربية الداعمة للبنان، مما يُضعف أي دور عربي مرجوّ.
- تركيا: تدين الاعتداءات الإسرائيلية وتدعم علنًا الموقف اللبناني والمطالبة بالسيادة، لكن دورها يظل دبلوماسيًا، ومصالحها وصراعاتها الإقليمية تحدّ من تحركها.
- مصر (الورقة الرابحة المحتملة): يبقى الدور المصري في الوساطة حاليًا هو المفضّل لدى جميع الأطراف خاصة بعد نجاح دورها في وساطة غزّة، لذلك تبدو مصر الأكثر قدرة على أن تكون وسيطًا محايدًا ومقبولًا من الفرقاء، إذا ما أعطيت تفويضًا أمريكيًا يدعم وساطتها.
رابعاً: موثوقية الضمانات والانتهاكات المستمرة
إن التحدي الأكبر لأي اتفاق يتمحور حول الاستمرارية وكسر حلقة الانتهاكات الإسرائيلية التي لم يستطع الوسطاء حتى الآن إيقافها.
لقد فشل الوسطاء جميعًا منذ العام 2006 في وقف الخروقات الجوية والبحرية للعدو الإسرائيلي، رغم أن القرار 1701 ملزم دوليًا. كما أن فشلهم في فرض عقوبات رادعة على تل أبيب حوّل هذه الانتهاكات إلى قاعدة ثابتة، مما يثير شكوكًا عميقة حول موثوقية ضماناتهم السابقة واللاحقة بوقف الاعتداءات.
مثال آخر هو عدم نجاح الجهود الدبلوماسية في إجبار إسرائيل على الانسحاب الكامل من نقاط التماس البرية المتنازع عليها، مثل أجزاء من قرية الغجر. هذا يؤكد أن الضمانات المتعلقة بالسيادة اللبنانية تبقى هشّة وتفتقر إلى القوة الإلزامية في غياب الإرادة الدولية الموحّدة.
وكذلك سابقاً عدم قدرة الإرادة الدولية في تنفيذ القرار ٤٢٥ الذي بقي لعقود دون تنفيذ حتى نفذته المقاومة بالقوّة.
🎯 الخلاصة والتوصية
رغم أن الدور المصري قد يكون كفيلًا بالوصول إلى حل، إلا أن التوصل إلى اتفاق مستدام وفعّال في هذه المرحلة الحساسة يتطلّب إطارًا دوليًا مُحدَّثًا يتجاوز الضمانات الشكليّة ومصالح الوسطاء.
يجب أن يضمن هذا الإطار مشاركة جميع الأطراف الدولية في فرض عقوبات واضحة ورادعة على أي طرف ينتهك نصوص الاتفاق.
غير ذلك، فليس للبنان سوى مقاومته وجيشه وشعبه في ظل غياب ضمانات حقيقية موثوقة التنفيذ، والتي لا يُرى إيجادها سهلًا في هذا الظرف الراهن ،ومهما كانت الأثمان التي تدفع حالياً ستكون أهون من أن نخضع لإرادة نتنياهو ونحن لا نملك ما نردّ به ولو جزءًا من العدوان ، وعند ذلك وقبله وبعده يبقى : السلاح زينة الرجال .































































