بين محاولة استغلال غضب الناس من الانهيار المالي، وبين المتظاهرين الذين لا يريدون سوى لقمة عيشهم، هناك ضوء أخضر أعطي لمواجهة حزب الله. كلمة السر واضحة، لكن اللعبة خطيرة بقدر خطورة انهيار البلد أمنياًمن سوء الظن اعتبار أن عودة الرئيس سعد الحريري الى بيروت الأسبوع الماضي، كانت إيذاناً بأن أمراً ما بدأ التحضير له، من أجل مواجهة الحكومة الحالية. لكن الصدف البريئة في لبنان تكاد تكون قليلة، فيصبح ترك الحريري باريس في عز أزمة كورونا، ليعود الى بيروت في ظل الأزمة المالية المتفاقمة، أمراً مفاجئاً بحسب سلوكياته التقليدية. وإذا كانت المعارضة السياسية للحكومة حقاً مشروعاً ومطلوباً، فإن عودة المشهد الداخلي الى توتره بعد استراحة ثلاثة أشهر بفعل انتشار الوباء، مع تغطية إعلامية عربية واسعة تشبه التي حصلت أيام الأزمات الشديدة، تعطي جملة مؤشرات إلى أن ما يجري يتعدّى كونه معركة بين معارضة وموالاة، أو اهتماماً بتدهور أحوال الناس المعيشية المسؤولة عنها حكوماته وحكومة فريقه السياسي وبمشاركة القوى السياسية كلها، ليصبح العنوان الرئيسي هو مواجهة حزب الله وحده.
أولاً، صحيح أن انشغال الإدارة الأميركية بمتابعة كورونا وأزمتها الاقتصادية، متقدم كأولوية، إلا أنه لا يحرف النظر عن متابعة الفرق الدبلوماسية والأمنية ملفاتها، ولبنان لا يزال يشكل جزءاً من سلسلة مترابطة إقليمياً. ولأنه كذلك، فإن السيناريو الأميركي تجاه إيران واستطراداً لبنان لم يتغيّر. ولم يتبدّل معه المنحى الذي يتعلق بسلوك لبنان في أزمته النقدية والمالية درب صندوق النقد الدولي عبر شروط لا التباس فيها، وفي أزمته السياسية درب تطويع حزب الله الى الحد الذي باتت فيه المعادلة إما الانهيار أو تسليم حزب الله، تذكّر بمعادلة التسعينيات. هذا الجو الأميركي الذي ينقل لبنانياً، يوازيه إصرار على أن لا مفاتيح حلول تسلّم لأي طرف لبناني إلا بمقدار ما يتجاوب مع المطالب الأميركية، وإن بطريقة مرنة، كما يحصل مع بعض الشخصيات السياسية في المرحلة الأخيرة. والسقف العالي الأميركي الحالي ليس مرشحاً لأن يخفض راهناً، مهما كان شكل الانهيار اللبناني، ولا سيما أن جهات رسمية لم تستوعب جدية التبليغ الأميركي منذ شهور أن «استقرار» لبنان لم يعد خطاً أحمر مطلقاً بالنسبة الى الأميركيين.
ثانياً، لا شك أن صعود حزب الله التدريجي منذ 17 تشرين الأول وإلى الأزمة الراهنة، في قيادة الحلول المطروحة للأزمة، وتحميل خصومه له مسؤولية تفاقمها في المقابل، أضاف إليه ثقلاً كان يتوقعه. فالحزب كان من داعمي عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، وبالغ في «غنجه» له، من أجل استمراره رئيساً للحكومة قبل الاستقالة وبعدها. وهو كان مدركاً أن العاصفة مقبلة، مفضلاً أن تكون مواجهتها مشتركة مع المعنيين سابقاً وراهناً، بدل أن يتحمل وحده وزر الانهيار المالي والاقتصادي والمعيشي. أيّد الحزب دخول جميع القوى السياسية الى الحكومة ولم يضع فيتوات، لأنه مدرك تماماً معنى الاستفراد، ومغزى ما يعدّ له إقليمياً ودولياً، في وقت يريد فيه تعزيز أمن بيئته الاجتماعي الذي لحقه الانهيار أسوة بـ«البيئات» اللبناينة الأخرى. لكن بعد خروج الحريري من الحكومة، ورغم مهادنة بعض الأطراف المعارضة للحزب والحكومة الجديدة، لم يخفّ الضغط الداخلي على الحزب، لأن العهد والتيار الوطني الحر لم يسهّلا عليه المهمة. فالنائب جبران باسيل لم يجر مراجعة شاملة لمرحلة ما قبل سقوط الحكومة وما بعدها، أو نقداً شاملاً للنصف الأول من ولاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، بل استمر على الإيقاع نفسه ونهج التفرد وتحميل المسؤولية للآخرين، وكأن لا انتفاضة حصلت ولا وباء ولا انهيار اقتصادياً. وهذا وضع الحزب أمام مواجهة مكلفة مع حلفاء آخرين كالرئيس نبيه بري أولاً وآخراً، العارف كيف يميز نفسه عنه في لحظة حساسة. ومشكلة التيار اليوم أنه لم يعد في وضع سليم مهما كابر منظّروه، وهو أصبح مربكاً بفعل غياب عدّة الشغل بعد تقهقر العهد، وخروجه من المشهد الإقليمي والدولي وبلاد الانتشار، وخياراته الحكومية غير الموفقة، وتذاكيه في ملف المصرف المركزي والمصارف عموماً. وأصبح أسير العدّ العكسي لنهاية العهد، مع ما يعنيه ذلك من حاجة الى مفاتيح دولية أميركية وإيرانية تساهم في تزكية خليفة رئيس الجمهورية، وهذا يؤدي به الى ضياع البوصلة حكماً. وهو أمر يترك تخبطاً واضحاً في أدائه السياسي ويزيد من الأثقال الداخلية على الحزب.
ثالثاً، لا يمكن اعتبار اشتعال طرابلس أو بيروت أو الشوارع الشعبية بأنه لحظة القوى السياسية المعارضة لحزب الله، وإن حاولت هذه القوى استخدام الناس وجوعهم وفقرهم بكل الطرق. التظاهرات هي وليدة تحركات شعبية بحت، لكن النقطة النافرة هي أن المصارف كانت تعرف ومعها القوى السياسية والعسكرية أنه في اليوم الذي ترفع فيه قيود التعبئة العامة سينفجر الناس في وجه المصارف وكل من يمسّ بلقمة عيشهم. هذا كلام قيل علناً في اجتماعات سياسية ومصرفية، لكن الخطورة فيه أنه ترافق مع تعزيز مقصود للتدابير المصرفية لدفع الناس الى الشارع ومعها القوى السياسية المعارضة، ما يؤدي الى إقفال طويل الأمد للمصارف. فالضوء الأخضر للمتظاهرين بسبب أداء المصارف السيئ المستمر من تشرين الأول وإمعانها في إذلالهم، يختلف عن الضوء الأخضر المعطى للأحزاب والقوى السياسية التي كانت على طاولة واحدة مع حزب الله في حكومة الرئيس سعد الحريري يوم انفجر الشارع في وجهها. واضح التقاطع الدولي والإقليمي مع الداخل في مواجهة حزب الله، لكن غير الواضح بعد عناصر المواجهة الكاملة، لأن الانهيار الذي حصل شعبياً لن يبقى محصوراً في ظل الجوع والعوز وتفلّت السلاح. أخطر ما في الأمر دخول الجيش على خط الشارع من مكان آخر. ليس صحيحاً أن هناك من يدفع الجيش الى الشارع لحرقه، هذا كان يصح سابقاً في إطار التمسك بمؤسسة أمنية في لحظة الانهيار. مصرف لبنان يتحمل أخطاءه وحده، وعلى الجيش أن يتحملها أيضاً. فما يحصل من أخطاء عسكرية وأمنية (وإعلامية مُخجلة) في الجبل وطرابلس وبيروت والبقاع، بعد كل تجارب الشهور الماضية، لا يمكن النظر إليه سوى أنه جزء من مشهد مقصود يراد له أن ينفجر.
هيام القصيفي – الأخبار