انطوان فرح
بين الصيغة الأولى لمشروع الكابيتال كونترول والصيغة الثانية لا توجد فروقات ذات دلالات عميقة، لكنّ الصيغتين تعكسان قبل كل شيء عمق الأزمة التي وصلنا اليها بعد سنتين ونصف من الانتظار العقيم. وما كان يمكن إقراره بعد الافلاس مباشرة، لم يعد متاحاً اليوم. وما هو متاح حالياً، لن يبقى كذلك غداً.
شكّل اقتراح الكابيتال كونترول الذي وصل الى المجلس النيابي في المرة الاولى، قبل ان تستردّه الحكومة وتناقشه وتحوّله الى مشروع قانون وتعيده الى المجلس، صدمة لدى الرأي العام اللبناني. وألصقت بالاقتراح كل الصفات التي تصل الى مستوى الاتهام بالمؤامرة لنهب ما تبقى من اموال المودعين. لكن المفارقة ان التعديلات التي أجرتها الحكومة، لا تعدو كونها تعديلات تجميلية، في حين ان القانون المقترح بقي في مضمونه الاساسي كما هو، ليس لأن الحكومة ترفض التجاوب مع المجلس النيابي، أو مع صرخات المودعين والمواطنين والصناعيين المحتجّين، بل لأن عمق الأزمة بات يفرض اجراءات غير مسبوقة، موجعة وقاسية وربما ظالمة، لأن الخيارات المتاحة صارت ضيقة الى الحد الأقصى.
واذا كان البعض قد اعتبر ان ردّ فعل النواب الرافض للاقتراح الاول يتعلّق حصراً بالحسابات الانتخابية، والرغبة في «مسايرة» الناس، ولو بأسلوب شعبوي، وقد يكون ذلك صحيحاً في مكان ما، إلا ان ردة فعل المواطنين عموماً تؤكد اننا لا نزال نعيش حالة انكار لعمق الأزمة، ولم ننجح في تجاوز هذه الحالة الانكارية القاتلة حتى الان.
في المقارنة بين الكابيتال كونترول بصيغته الاولى وصيغته الثانية بعد مناقشته في الحكومة وإقراره – مع تسجيل اعتراض ممثلي «حزب الله» وحركة أمل عليه – تقتصر التغييرات الاساسية على النقاط التالية:
اولاً – تعديل في طبيعة تركيب اللجنة التي ستتولى مهام الاشراف على تنفيذ القانون، وتحديد الاستثناءات. ونتيجة هذا التعديل، سحب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي نفسه من رئاسة اللجنة. لكن المفارقة هنا انه تمّ ايضاً استبعاد وزير الاقتصاد امين سلام، بما أوحى للبعض وكأنّ الطرف السني لا يرغب في أن يكون رأس حربة في هذا الملف الشائك حيث يتوقّع ان تتعرّض اللجنة لضغوطات وانتقادات نتيجة طبيعة المهمة الحسّاسة المناطة بها. في كل الأحوال، هذا التعديل لا يغيّر شيئاً في مضمون القانون المقترح.
ثانياً – تعديل مدة سريان القانون وخفضها الى سنتين قابلة للتجديد مرة واحدة. وهنا لا بدّ من التأكيد ان هذا التعديل هو شكلي، ومهم من الناحية النفسية فقط. اذ يفترض، واذا استثنينا حالة الانكار التي نغرق بها، ان نعرف انّ عملية ضبط التحاويل ستستغرق اكثر من سنتين حتماً. والنماذج التي اتّبعتها دول، وَضعُها افضل بكثير منّا، ولا مجال للمقارنة معها، تُثبت ان عمليات ضبط حركة الرساميل ستستغرق اكثر بكثير من سنتين. والمبدأ المعمول به عملياً هو انّ رفع الكابيتال كونترول يتم تدريجاً، لكن الرفع النهائي يحصل عندما يعود الانتظام العام الى الوضع المالي، وعندما تعود الثقة، بحيث لا يَتهافت الجميع الى سحب اموالهم فور الاعلان عن تحرير حركة الرساميل مجددا. فهل هناك من يصدًّق فعلا ان هذا الوضع سيتحقق في غضون سنتين فقط؟ وللمفارقة، بالامس أُعلن ان اليونان سوف تسدّد الدفعة الاخيرة من قرضها من صندوق النقد في آخر نيسان الجاري، الذي حصلت عليه في العام 2009، واستغرقها الوضع 13 سنة لإغلاق قرض مُخصّص للانقاذ. فهل سيكون لبنان اسرع في التعافي من اليونان مثلاً؟
ثالثاً – الشق المتعلق بإعادة اموال التصدير، والذي خضع لتعديلات فنية في الصيغة الثانية، مهم وحساس. ذلك ان تشجيع التصدير في هذا النوع من الأزمات من الضروريات الحيوية. لكن مراقبة حركة اموال التصدير مهمة ايضا، وتوازي مبدأ تشجيع التصدير. وقد اعترف وزير الصناعة على الهواء انّ مسألة اعادة اموال التصدير، حتى عندما كانت المواد الاولية مدعومة بقوة من قبل مصرف لبنان، بقيت ضبابية. أي ان هناك قسماً كبيراً من المصدّرين لم يلتزم اعادة الاموال، وكان يستفيد من الدعم ويستعمل التصدير لتهريب المزيد من الرساميل الى الخارج. وهذا الامر لا يجوز ان يستمر ويحتاج الى ضبط نهائي هو الآخر.
في المحصّلة، المشكلة لا تكمن في مضمون قانون الكابيتال كونترول بقدر ما تكمن في عمق الأزمة التي وصلت الى مرحلة متقدمة من الانهيار. وأي إجراء مهما بدا قاسيا اليوم، سيكون «أرحم» من الاجراءات التي سنضطر الى اتخاذها في المرحلة المقبلة اذا واصلنا الانكار، واستمرّينا كما فعلنا منذ آذار 2020، بل منذ 2019، حين كان الوقت اكثر من مناسب لإقرار كابيتال كونترول كان سيحيمنا نسبياً، وكان منع وصولنا الى ما وصلنا اليه اليوم، لكننا لم نفعل بذريعة صون حقوق المودعين.
الجمهورية