طوني عيسى – الجمهورية
خلف ستار سميك من المواقف الضبابية أو المتناقضة، يقف «حزب الله» أمام مفترق طرق وجودي، هو الثاني من نوعه بعد الضربة الإسرائيلية التي تعرّض لها العام الفائت. فهل يدخل الحرب دفاعاً عن رأس المحور ورمزه وعموده الفقري في طهران، أم ينأى بنفسه عن هذه المغامرة التي قد تكلّفه كل ما بقيَ له من نفوذ في لبنان؟
ليس قراراً بسيطاً دخول «الحزب» في الحرب إلى جانب النظام الإيراني. ففي تلك اللحظة، عليه أن يكون مستعداً لمواجهة كل مستلزمات هذا القرار، سياسياً وعسكرياً، ولدفع الأثمان اللازمة، علماً أنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة انتزعت منه كثيراً من القدرات وضيّقت عليه هوامش التحرّك، ولم يبقَ له سوى القليل الذي يبذل كل جهد من أجل الاحتفاظ به.
ثمة حسابات دقيقة ومعقّدة تمنع «الحزب» من التورّط في الحرب، وتدفعه إلى إطلاق الإشارات المتضاربة والضبابية في ما يتعلق بخطواته اللاحقة. فرئيس مجلس النواب نبيه بري، شريكه في «الثنائي»، طمأن الموفد الأميركي توماس براك إلى أنّ «الحزب» لن يدخل الحرب إطلاقاً. لكنّ المواقف التي يوزّعها «الحزب» تكتيكياً، على ألسنة قيادته وكوادره، يُستخلص منها أنّ عدم المشاركة في الحرب حالياً ليست ثابتة ودائمة بالضرورة، وأنّه قد يُبدِّل موقفه في مراحل لاحقة، خصوصاً إذا تبيّن أنّ إيران تحتاج إلى الدعم العملاني.
فإذا كان «حزب الله» قد خاض العام الفائت حرباً مريعة كلّفته كثيراً من أجل مساندة حلفائه في غزة، أفليس منطقياً أن يخوض حرباً أكثر شراسة لمساندة المرشد علي خامنئي، رأس المحور ورمزه.
في عبارة أكثر وضوحاً، يتجنّب «حزب الله» أن يُعلن في شكل حاسم امتناعه عن دخول الحرب، تحت أي ظرف كان، لأنّه يُريد إبقاء الباب مفتوحاً لاحتمال المشاركة إذا تعرّض النظام الإيراني إلى تهديد حتمي وقاتل. وهذا ما أوحاه الموقف الأخير لنائب رئيس مجلسه السياسي محمود قماطي.
في المرحلة الحالية، يتعمّد «حزب الله» الحفاظ على التباينات في مواقف كوادره. فالغموض والتناقض يسمحان له بالمرونة والقدرة على المناورة، إذ يمكنه في أي لحظة أن يعلن عزمه في شكل حاسم على التدخّل أو عدمه، بناءً على ما ستؤول إليه التطوّرات. وحساباته واضحة.
فدخوله الحرب سيستتبع تعرّضه إلى ضربات إسرائيلية ساحقة تقود بالتأكيد إلى هزيمته في شكل كامل، وتؤدّي إلى تدمير لبنان المثقل بأزمات اقتصادية ومعيشية خانقة. كما أنّ أي حرب كهذه ستلقى اعتراض أهل الحُكم وغالبية اللبنانيِّين، وستُصيب بيئته الشيعية بخسائر لم تَعُد قادرة على تحمّلها، ولم تَعُد مستعدّة لذلك كما كانت في مراحل سابقة.
وفوق ذلك، قالها الأميركيّون صراحة على لسان توماس براك: «دخول «الحزب» في الحرب هو «قرار سيّئ، بل سيّئ للغاية». وهذه العبارة تُبرز حجم الضغوط الدولية التي تنتظر الحزب ولبنان في حال الانخراط في الحرب، وهي ضغوط كافية لعزل لبنان ووضعه تحت مطرقة العقوبات والعقوبات المضادة.
لكن، على الأرجح، سيتجنّب «حزب الله» الانجرار إلى مغامرة الحرب، حتى في اللحظات المصيرية التي يُراد فيها إنقاذ خامنئي. والسبب الأساسي في ذلك هو اقتناعه بأنّ مشاركته العسكرية المباشرة في هذا النزاع الواسع لن تكون فاعلة لإنقاذ نظام بهذا الحجم. وعلى العكس، ستكون لها انعكاسات سلبية جداً، بل وجودية، على «حزب الله» نفسه. وثمة مَن يعتقد أنّ من مصلحة طهران نفسها أن تحافظ على وجود «الحزب» في لبنان، كورقة قوة لها، مهما تقلّبت التطوّرات. فاستنزافه في حرب خاسرة سيُفقدِها ذراعاً استراتيجية مهمّة، علماً أنّ نفوذ أذرعها الإقليمية يتضاءل تدريجاً.
في أي حال، ليس واضحاً كيف يمكن لـ«حزب الله» أن يُقدِّم المساندة العسكرية لنظام خامنئي: هل يُشعِل جبهة الجنوب اللبناني كما فعل عندما قرّر تقديم الدعم لـ«حماس»؟ أم يُرسل مقاتليه إلى إيران أو أي بلد آخر في العالم ليضرب أهدافاً أو مصالح إسرائيلية؟ أم يُنفِّذ الخطتَين في آنٍ معاً لزيادة الفاعلية؟ لكنّ الجميع يُدرك تماماً حجم العواقب التي يصعب تحمّلها، والتي سترتد على «الحزب» وعلى لبنان.
لذلك، يمكن اعتبار التصريحات النارية التي يطلقها بعض كوادر «الحزب» جزءاً من استراتيجية الحرب النفسية والمساومات، لا أكثر. فهؤلاء يدركون جيداً أنّ ترجمة التهديدات بعمل عسكري تترتّب عليها انعكاسات تُهدِّد «الحزب» نفسه بوجوده، فيما لا شيء يمكن تقديمه لإنقاذ النظام الإيراني، إذا كان قد وصل فعلاً إلى لحظته المصيرية، نتيجة الحرب بين الكبار في الإقليم والعالم.
د