جوني منيّر – الجمهورية
ينعقد مجلس النواب مرة جديدة اليوم بهدف انتخاب رئيس للجمهورية، لكن جميع القوى السياسية والكتل النيابية والوجوه المستقلة تدرك تمام الإدراك انّ هذه الجلسة لن تكون مختلفة عن سابقاتها، وهو ما يعني بالمختصر المفيد، أن لا رئيس جمهورية حتى الآن. وقد يكون الجديد الوحيد الممكن رصده هو في طريقة اقتراع نواب «التيار الوطني الحر»، وما إذا كان هنالك ردّ على انعقاد جلسة مجلس الوزراء امس. وعلى مسافة ليست ببعيدة من قاعة مجلس النواب، يستمر الوفد القضائي الاوروبي في الاستماع إلى افادات شخصيات مالية ومصرفية، في مهمّة الكشف عن عمليات تبييض اموال، والتي يتفرّع عنها حتماً ملف الفساد في لبنان. وبعد يومين يصل وفد قضائي فرنسي آخر للإطلاع على آخر ما وصلت اليه التحقيقات حول انفجار مرفأ بيروت، استناداً إلى وجود من يحمل الجنسية الفرنسية بين الضحايا.
حتى الآن، ليس هنالك من رابط واضح بين الملفات الثلاثة: الرئاسة والفساد وانفجار المرفأ. لكن التزامن الحاصل يدفع إلى طرح عدد من الاسئلة، رغم عدم وجود اجوبة شافية.
وبخلاف التصريحات والمواقف المعلنة، فإنّ جميع القوى السياسية اللبنانية مقتنعة بأنّ وصول الأزمة السياسية اللبنانية إلى حائط مسدود يدفع إلى الاستنجاد بالخارج لحبك التسويات وأخذ الضمانات تمهيداً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. وليس من المبالغة ابداً القول، إنّ هذا الدرب كانت تسلكه دائماً الطبقة السياسية اللبنانية، لانتزاع أثمان دولية تضمن مصالحها وبقاءها واستمراريتها.
لكن المشكلة اليوم انّ دول العالم، وخصوصاً الفاعلة منها، غارقة في أزماتها الداخلية ومشكلاتها الخارجية، ما يجعل الملف اللبناني في مرتبة متأخّرة.
وحده الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، ولأسباب متعددة، بعضها له علاقة بالمصالح الفرنسية المستجدة حيال شرق البحر الابيض المتوسط، وبعضها الآخر بسبب الحضور اللبناني في الوجدان الفرنسي، وبعضها الاخير بسبب سعي ماكرون إلى إنجازات يكتبها في سجله الرئاسي وتسمح له بتعزيز موقعه السياسي داخل فرنسا وفي الشرق الاوسط، يسعى إلى حمل الملف اللبناني على الساحة الدولية والعمل على تأمين ظروف حلّه.
في المحافل الدولية تقارير تتضمن ارقاماً مخيفة، فأن يكون الانهيار المالي قد ادّى إلى زيادة عدد المهاجرين بنسبة 450% في عام واحد فقط، إضافة إلى تصاعد رحلات الهجرة غير الشرعية انطلاقاً من سواحل لبنان، فهذا ليس بأمر يمكن لأوروبا ان تبقى لا مبالية تجاهه.
وفي التقارير، انّه من العام 2017 حتى العام 2020 غادر لبنان 215653 لبنانياً معظمهم من الشباب المتعلّم. وفي العام 2021 وحده سُجّل هجرة 79721 لبنانياً، وهذه الارقام تعني من دون شك نذائر موت وطن. أضف إلى ذلك، انّ مؤسسة «غالوب» التي أجرت استطلاعاً في العام 2021، قالت إنّ 63% من اللبنانيين يريدون الهجرة إلى الأبد.
صحيح انّ الأزمات الاقتصادية والمالية والسياسية كبيرة وخطيرة، إلّا انّ خسارة الرأسمال البشري هي الأهم والأكثر خطورة.
وعلى الرغم من ذلك، لم تتزحزح القوى السياسية قيد أنملة واحدة عن تمترسها في الملف الرئاسي، وحيث انّ تصلّبها يرتكز على تأمين مصالحها الذاتية فقط لا غير، من دون الالتفات إلى أدنى درجات المصلحة العامة، وهذا الإقتناع موجود وثابت لدى جميع الغربيين المطلعين على الملف اللبناني.
ولذلك، ستستمر هذه «المسرحية» الرتيبة مع انعقاد كل جلسة لمجلس النواب مخصّصة للانتخابات الرئاسية، ولكن من دون تفعيل أي حركة جدّية وحقيقية لتحقيق الخرق المطلوب، وسط مشاريع اقليمية موجودة لإحداث تغييرات جوهرية وبنيوية في لبنان.
وتتناقل الكواليس الديبلوماسية ما قاله رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل لمسؤول لبناني رفيع حين سأله: طالما انّ خياراتك الرئاسية لا تبدو جاهزة، فلماذا لا ترشح أحد اعضاء التكتل الذي ترئسه؟ فأجاب: «طالما أنّها وصلت إلى التكتل، فلماذا لا أكون انا هو المرشح؟».
وفي واقعة ثانية مشابهة، ولدى استقبال باسيل سياسياً لبنانياً معروفاً، بادره الاخير بالسؤال عمّا إذا كان هناك اسم جدّي يخفيه ويحضّر لطرحه في اللحظة المناسبة، طالما انّه يرفض في المطلق سليمان فرنجية والعماد جوزف عون، فكان جواب باسيل بعد برهة من التفكير: «هل تعرف أنّه ليس هنالك اي اسم «خرج» ان يكون رئيساً؟».
الاقتناع راسخ لدى الغربيين أنّ خيار باسيل الوحيد هو «جبران باسيل». وانّ الاسماء التي تمّ تسريبها حول تأييده أحدها، انما كان يدرك مسبقاً أنّه يدفع بها الى الحريق، كون القوى السياسية الاخرى سترفض فوراً اي اسم صادر عنه، فيما هو اختار بعض هؤلاء لزكزكة رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، والبعض الآخر لإحراق حظوظه، هذا إذا وجدت في الأساس.
في العاصمة الفرنسية ثمة متابعة لكل هذه «الأنانية» والفوضى الرئاسية في لبنان، وهو ما يجعل التعويل على ضغوط خارجية تسمح بتسوية رئاسية في لبنان. وليس سراً انّ العين الخارجية هي على «حزب الله»، فحلّ العقدة يبدأ من هنا. لذلك تستمر السفارة الفرنسية في بيروت في تواصلها مع «الحزب».
وفي الوقت نفسه، بدت الإطلالات الاخيرة للأمين العام لـ»حزب الله» هادئة وليست تصعيدية، ولهذا معناه.
وفي الحسابات الفرنسية، انّه لا بدّ من الاستمرار في البحث عن الآلية التي يمكن ان تحقق الخرق المطلوب. صحيح انّ الوفود القضائية قد تسمح في مرحلة لاحقة في المساعدة على تأمين المرونة المطلوبة، لكن الملف في حاجة اولاً لطريقة تحقيق الخرق، خصوصاً انّ العلاقات الدولية تشهد تأزّماً. فمجموعة الدعم الدولية غير قادرة على العمل بسبب «الفيتو» الموجود على روسيا نتيجة حرب اوكرانيا.
في السابق، وفي حالات مشابهة، كانت التسويات تجري مع دمشق التي تتولّى إحداث الخرق، لكن الظروف اليوم مختلفة. إلّا انّ ثمة مسألتين تعوّل عليهما باريس. الاولى تتعلق بزيارة للرئيس الايراني ابراهيم رئيسي لباريس، كان يجري التحضير لها. ولكن وبسبب المستجدات، فإنّ هذه الزيارة ستتأجّل بعض الشيء، ولو انّ المبدأ سيبقى قائماً. فالمصالح الايرانية وسط التحدّيات الموجودة، تفرض حصول هذه الزيارة، والتي قد تكون مناسبة لتحقيق التقدّم المطلوب في الملف اللبناني. والثانية تتعلق بالآلية العربية المواكبة، والتي بدت ضعيفة وفق الصيغة التي كانت قائمة.
فالتقدّم القطري بدا غير كافٍ لإنتاج الدينامية المطلوبة، خصوصاً انّ ما عُرف بالحل القطري عام 2008، حصل بدفع سوري، وهو ما أنتج وصول ميشال سليمان إلى قصر بعبدا. واستطراداً، ثمة توجّه لإعادة تفعيل الدور المصري نظراً لثقله على الخريطة العربية، وقدرة تواصله المؤثرة ما بين دول الخليج وايران وسوريا وحتى «حزب الله».
وفي الكواليس الديبلوماسية، لا تزال حتى الآن معادلة إما سليمان فرنجية او العماد جوزف عون هي السائدة، دون سواها. لكن ظهر خلال الايام الماضية اقتراح بالبحث عن اسماء جديدة لم يتمّ طرحها بعد كبديل احتياطي، كون الاسماء التي ظهرت أخيراً يميناً ويساراً في الاعلام احترقت. ولكن هذا الاقتراح لم يتبلور جدّياً بعد.
وفي وقت تبدو جلسات الوفد القضائي الاوروبي مهنية وتقنية، أعادت باريس تفعيل قنواتها مع واشنطن، التي جدّدت التزامها بدعم المسعى الفرنسي.
ومنذ ايام معدودة، وتحديداً في 13 من الشهر الجاري، وجّه ثلاثة اعضاء في الكونغرس الاميركي رسالة رسمية إلى وزير الخارجية انتوني بلينكن ووزيرة الخزانة جانيت يالين، للمطالبة برفع مستوى الضغط الديبلوماسي لمساعدة لبنان على حلّ أزمته.
ووقّع الرسالة نائبان عن الحزب الجمهوري وهما داريل عيسى ودارين لحود، ونائب عن الحزب الديموقراطي وهي ديبي دينجل، في اشارة إلى انّ هذه المسألة تحظى بإجماع الحزبين.
وبعد عرض لعمق الأزمة في لبنان، وهو ما يشكّل «مصدر قلق لدينا»، كما جاء في الرسالة، جرى استعراض لبعض النقاط الحساسة، كمثل انفجار الرابع من آب، وحيث ادّت النزاعات السياسية إلى منع اي تحقيقات جدّية وذي مضمون فعلي، ما أنتج نزوحاً لنحو 300 الف لبناني، وإصابة 6 آلاف بجروح ونحو 220 ضحية. وبعد ان استعرضت الرسالة الواقع المعيشي الصعب وانخفاض قيمة النقد إلى 95%، شدّدت على النقاط الآتية:
1- نعتقد انّ الادارة يمكن ان تساعد في إنهاء الجمود من خلال تكثيف الضغوط الديبلوماسية.
2- محاسبة اولئك الذين يواصلون عرقلة العملية الديموقراطية.
3- على واشنطن الدفع لتحقيق مطالب المجتمع الدولي بما في ذلك الانتخابات الرئاسية وتشكيل حكومة تعمل على تحقيق الاصلاحات المطلوبة.
4- دعم قيام دولة مستقلة بعيداً من أي تجاذب سياسي، وتحصين استقلالية القضاء، وهو ما اظهرته مطالب الشعب اللبناني خلال الانتخابات النيابية الماضية.
الواضح انّ واشنطن تستعد لرفع عصا العقوبات دعماً لحركة باريس، رغم انّ اي نتائج لا تبدو قريبة جداً، لكنها بالتأكيد ليست منسية.