بعد استراحة فرضها الادّعاء على رئيس الحكومة المستقيلة من قبل المحقّق العدلي في جريمة تفجير المرفأ، يُتوقع أن يعود ملف دعم السلع الحيوية إلى أولويات السرايا الحكومية، حيث تُستكمل الاجتماعات للوصول إلى خلاصة أو رؤية تُقدَّم إلى مجلس النواب. البطاقة التمويلية في صدارة النقاشات، لكنْ تواجهها مشكلتان: عدم الاتفاق على مصادر تمويلها، وميل البعض إلى استسهال اللجوء إلى قسائم دعم المحروقات
لم ينته النقاش في مسألة إصدار بطاقة تمويلية لكل المواطين، كبديل عن دعم السلع الحيوية (الدواء، المحروقات والخبز). كان يُفترض أن يُعقد بشأنها اجتماع يوم الجمعة، لكن الضجة التي أثيرت بعد الادّعاء على رئيس الحكومة المستقيلة، حسن دياب، في جريمة تفجير المرفأ، جمّدت أي نقاش أو نشاط غير مرتبط بالقضية. اليوم يفترض أن يُعقد اجتماع لتقريب وجهات النظر بشأن بديل إلغاء الدعم، في ظل وجود رأيين: الأول يؤيد توزيع بطاقات تمويلية (تضع «الدولة» مبلغاً من المال، شهرياً، في البطاقات، لاستخدامه بحسب حاجتها)؛ والثاني يعتبر أن الأفضل والأسرع هو توزيع قسائم دعم لأسعار المحروقات حصراً، انطلاقاً من أن هذا القطاع هو الأكثر كلفة (كلفة الدعم تتخطّى 300 مليون دولار شهرياً).
لكن بين الفريقين ثمّة قطبة تعرقل التقدم في الملف. بعض المشاركين في الاجتماعات يؤكد أن رئيس حكومة تصريف الأعمال لا يزال غير متحمّس لتحمل المسؤولية بالنيابة عن الطبقة الحاكمة التي أطاحت به عندما عمل بخلاف إرادتها، ثم تريد منه أن يغطي قرار تخفيف الدعم نيابة عنها. في المقابل، فإن الفريق الآخر، ويتقدّمه المصرف المركزي يريد الإسراع في هذه الخطوة ليس بسبب الشحّ في الدولارات فحسب، بل لعدم تحميل حكومة سعد الحريري هذا العبء في حال تشكيلها.
رغم ذلك، وتحت ضغط مجلس النواب، تسعى الحكومة المستقيلة منذ أكثر من أسبوع للوصول إلى نتائج عملية تؤدي إلى تخفيف الدعم عن السلع مقابل توجيهه إلى محتاجيه فقط. لكن المشكلة الفعلية التي تواجه اقتراح البطاقة التمويلية حالياً هي الخلاف بشأن الجهة التي تموّلها. الحكومة تصرّ على أن يكون التمويل من المصرف المركزي، انطلاقاً من أن البرنامج هو استكمال للدعم الموجّه للسلع، لكنّ في المصرف المركزي إصراراً مقابلاً على ضرورة أن يكون تمويل البطاقة عبر الجهات المانحة.
وزارة الاقتصاد تجمع الأمرين، تشير إلى أن المصرف المركزي يجب أن يكون رافعة المشروع، إضافة إلى تخصيص الحكومة موازنة للمشروع. كما يفترض أن يكون البنك الدولي، الذي يدعم المشروع، من المموّلين له. وهو، بحسب الخطة، يتوقع أن يؤمّن قروضاً ومنحاً تغطي دعم 240 ألف أسرة، أي ما يعادل 1.3 مليون شخص يشكّلون 32 في المئة من اللبنانيين.
تجدر الإشارة إلى أن وزير المالية وقّع مع البنك الدولي محضر اتفاقية قرض بقيمة 246 مليون دولار مخصّص لمشروع شبكة الأمان الاجتماعي وأزمة الطوارئ والاستجابة لـ«كوفيد ـــ 19». ويأتي التوقيع تنفيذاً لقرار من مجلس الدفاع الأعلى يفوّضه التفاوض مع البنك. وبعيداً عن الإشكالية القانونية المتعلقة بهذا التفويض، فإن القرض يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء أولاً، ثم موافقة مجلس النواب. وخلافاً لما تعلنه وزارة المالية عن أن القرض يحتاج فقط إلى إقراره دستورياً ليتم صرفه من قبل البنك الدولي، فإن مطّلعين على الملف يؤكدون أن أي دولار لن يدخل إلى لبنان من المؤسسات الدولية، خاصة تلك التي تملك الولايات المتحدة تأثيراً كبيراً عليها، إلا بعد الاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج «إنقاذي». لكن في المقابل فإن مصادر مطلعة تؤكد أن المدير الإقليمي للبنك الدولي ساروج كومار جاه أخذ الأمر على عاتقه، وقد تم بالفعل تحويل المحضر إلى مجلس إدارة البنك للموافقة عليه. علماً أن المبلغ يغطي تلقائياً نحو ٢٠ في المئة من المشمولين في البطاقة (حسب خطة وزارة الاقتصاد)، وبالتالي هو يشكل حكماً جزءاً منها.
بعدما كانت الخطة تشير إلى حصول كل شخص راشد في الأسرة على 50 دولاراً مقابل 25 دولاراً (في السنة الأولى) لمن لم يتخطّ عمره الـ23 عاماً، أشارت مصادر وزارة الاقتصاد إلى أن تعديلاً جرى على المبلغ المخصص للفئة الثانية، بحيث يصبح 30 دولاراً للفرد. وعليه، فإن أسرة من خمسة أشخاص، بالغَيْن وثلاثة أولاد، ستحصل على 190 دولاراً في الشهر، على أن يتناقص هذا المبلغ كل عام.
190 دولاراً لكل أسرة مؤلّفة من خمسة أشخاص
تشير التوقعات إلى احتمال تسجيل نحو 550 ألف أسرة في البرنامج، لكن لم يُحسم بعد ما إذا كان المبلغ المخصّص لكل عائلة سيُدفع بالدولار النقدي أو بالليرة اللبنانية حسب سعر صرف في السوق (ما يعادل مليوناً ونصف مليون ليرة، على أساس سعر صرف 8000 ليرة للدولار).
تدخل الخطة تفصيلاً في كيفية تنفيذ البرنامج، وما يحتاج إليه من موارد بشرية ومادية لإدارته، وكم يستغرق بدء التنفيذ وكيف يمكن البدء بتخفيض الدعم. كما تتطرق إلى طرق التسجيل وطرق الدفع. على سبيل المثال، يمكن للأسرة التسجيل في البرنامج إلكترونياً عبر ملء استمارة خاصة (يتضمن التسجيل إرسال صورة للوجه «سِلفي»، يعمد البرنامج إلى تسجيل بياناتها بما يضمن عدم تسجيل الشخص نفسه أكثر من مرة، كما تتم مقارنة الصورة أوتوماتيكياً مع صورة الهوية أو جواز السفر أو رخصة السوق). كذلك سيتاح التسجيل بشكل شخصي في مراكز تسجيل متعددة، مثل «ليبان بوست»، أو في المراكز العامة، بالإضافة إلى مراكز متحرّكة للتسجيل يتم استحداثها بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني.
وبعد تقييم بسيط للطلبات، يتم إعلام المتقدمين باستيفاء طلبهم للشروط من عدمه. وما إن يبدأ تنفيذ البرنامج، حتى يكون بإمكان المستفيدين الحصول على أموالهم إما عبر البطاقات المصرفية أو نقداً عبر «أو أم تي» و«ليبان بوست»، أو من خلال التحويل إلى الحسابات المصرفية.
البطاقة من دون إصلاحات… تنظيم للتسوّل
يعتبر الوزير السابق للاقتصاد منصور بطيش أن البطاقة التمويلية مفيدة في الواقع الراهن، لكن شرط أن يتم إصدارها بالتوازي مع إصلاحات اقتصادية جدية. والأمر نفسه يؤكده الخبير الاقتصادي كمال حمدان.
المطلوب أن يعمد المجلس النيابي إلى البدء فوراً بإقرار القوانين الإصلاحية، إضافة إلى قانون القيود على رأس المال (كابيتال كونترولز) وقص الودائع والديون (هيركات). وعلى سبيل المثال، يسأل بطيش عن مبرر التأخر في إقرار قوانين المنافسة والمشتريات العمومية والاصلاحات الضريبية ومكافحة الفساد… ولذلك هو يعتبر أن البطاقة تصلح لتكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، مشيراً إلى أن المطلوب تأليف حكومة منسجمة وجريئة تضع خطة عمل مقبولة من صندوق النقد الدولي وسيدر، تسهم في استعادة النشاط الاقتصادي، من خلال التركيز على الاستثمار في القطاعات الانتاجية بدلاً من النموذج الريعي الذي تكرس على مدى ثلاثين عاماً. ويؤكد أن «كل ذلك يجب أن يترافق مع تدقيق جنائي في كل المؤسسات العامة يبدأ من مصرف لبنان، بالتوازي مع إنجاز ديوان المحاسبة للحسابات العالقة».
باختصار، بطاقة تمويلية من دون حلول شاملة هي عبث بالنسبة إلى منصور، وكذلك بالنسبة إلى حمدان الذي يعتبر أنه عندما تصل نسبة الفقر إلى المستوى الحالي، يجب أن يترافق أي حل مع إصلاحات جذرية، كي لا ينتهي إلى كونه تنظيماً للتسوّل لا أكثر.
لذلك، فإن أسرع طريقة لمواجهة الأزمات المتلاحقة هي حل على مستوى الاقتصاد الكلّي، بحسب حمدان، بما يؤسّس في النهاية لتبنّي رافعات التنمية الاجتماعية. فبما أن الحاجة تطال ملايين البشر، لا بد من تعزيز التعليم الرسمي والخدمات الصحية وغيرها من مقومات التنمية. بهذا المعنى يمكن أن تكون البطاقة مفيدة، لكن أن تتحول إلى غاية تهدف الأحزاب من ورائها إلى استمرار نظام تبعية الناس لها، مقابل ترك الإصلاح الفعلي، فستكون النتيجة مدمّرة للاقتصاد والمجتمع.
ايلي الفرزلي – الأخبار