
كان ذلك منذ أكثر من أربعين سنة مضت، حيث كنّا نتجمع في الليلة المنتظرة من كل أسبوع، أي ليلة الأحد، لا لمشاهدة مسلسل مكسيكي أو تركي، فلم تكن موجودة في تلك الأيام، ولا لحضور مباراة كرة قدم، فلم نكن نفقه أكثر من “طج وشوت” في عالم المستديرة.
كان الاجتماع المقدّس بضرورة حضوره هو لمشاهدة حلقة جديدة من المصارعة الحرة، فمن كان يستطيع أن يفوّت على نفسه تلك اللحظات الصاخبة والمشوّقة التي كانت تترك أثرها في النفوس من أسبوع لآخر!!
وكان هذا التجمع يحصل في أحد بيوتات بلدتي في الضيعة القديمة كما نسميها، وكان صاحب الدار من القلّة النادرة التي تملك مولّداً كهربائياً، حيث لم نكن نرى الكهرباء في بعض الأوقات لما يزيد عن ستة أشهر، وكذلك يملك تلفزيوناً بالألوان، وهذا لوحده كان أمراً جديداً، فكيف إذا كان ذلك لمشاهدة المصارعة الحرّة ، فالحماسة والشغف يصلان أقصى ذروتهما.
ومن مآسي الزمن، لم يكن من قنوات تلفزيونية في فضاء الجنوب اللبناني سوى المحطة المسماة “الشرق الأوسط”، والتي كان يميّزها شعار عبارة عن ثلاثة مثلثات متدرجة من الأكبر للأصغر، والتي توحي إلى ثلاثة جبال لم أعرف رمزيتها أو مقصدها حتى الآن، وهذه المحطة كانت مملوكة من المدعو “أنطوان لحد”، الذي كان قائداً لما يعرف بجيش لبنان الجنوبي أو جيش لحد، وهو الجيش الذي تولّى حماية إسرائيل من هجمات المقاومين ونكّل وعذّب أهالي الجنوب اللبناني.
وبالعودة إلى أجواء الجمهور المتوثب لبدء المباريات، فكانت الأغلبية تفترش الأرض، إذ أن المنزل لم يكن يحوي سوى أريكة قديمة، وكان عدد الحضور كبيراً من كبار السن قبل الصغار، ولعلّ الكبار كانوا أكثر تفاعلاً وانفعالاً مع مجريات المباريات.
وتدق الساعة الثامنة ليلاً إيذاناً ببدء المباريات، ويعلو الصراخ حين يطلّ أحد الأبطال، وتبدأ روايات الجمهور، فكلُّ فرد يريد أن يستعرض معرفته بالبطل، فالجميع يحفظ أسماء المصارعين والحركات التي يؤدونها، ولا زلت أذكر منذ الطفولة كيفن فون إيرك وهو يطير في الهواء بشقلبةٍ أكروباتية، وكريس آدمز وركلته الخلفية، أمّا الأشهر فكانت كمّاشة كابوكي على رأس الخصم، حيث لا يتركه حتى يرتخي ويسقط أرضاً مغمىً عليه، فيما الحاضرون من الجماهير في صراخ وتصفيق يريدون أن تنجح تلك القبضة…
حينها لم يكن يخطر على بال أحد أنّ ما نشاهده هو تمثيلية متقنة ومتفق على حركاتها ونتائجها، وأن أولئك الأبطال الذين لم نكن ننام الليل بعد مشاهدة بطولاتهم لم يكونوا سوى ممثلين بأجسام رشيقة أو أجسام ضخمة، وأن هناك المنتج والمخرج كما هو في المسرحيات التي تؤدّى أمام الجمهور.
في خضم ما كنّا نراه من حلبة المصارعة والمصارعين وجمهورهم الأميركي الحاضر في الملعب، كان هناك أشخاص آخرون يلبسون بذّات رسمية غالية الثمن يصعدون في بعض المباريات إلى الحلبة، يمسكون بالميكروفون ويقولون كلاماً بالإنكليزية لم نفهم منه كلمة واحدة، لكننا نتفاعل مع من يقوله كما نتفاعل مع المصارعين، لأن المشهد دائماً ما ينتهي بضرب أحد أصحاب هذه البذّات من قبل مصارع بعد أن يضيق ذرعاً باستفزازه، والأكثر غرابة عندما يقوم المصارع بضرب صاحب البذّة الذي يفترض أنه من فريقه وينفصل عنه ويلتحق بالفريق الآخر في مشهد يعبّر عن الخيانة لتكتمل فصول المسرحية.
ومن بين هؤلاء الرعاة أصحاب البذّات الرسميّة، كان هناك رجل ذو شعر أصفر ووجه أصهب، كان الأكثر إثارة للجدل، فهو الأكثر استفزازاً واستعراضاً، ودائماً تنتهي عنترياته عبر الميكروفون بأن يتعرّض للضرب أو أن يقوم هو بضرب أحدهم، فتشتعل المباراة وتكون مباراة الأسبوع.
وأغلب الظن أن الجمهور الأميركي كما نحن، ينتظر المباراة التي سيكون مشاركاً فيها أحد الأبطال من فريق هذا الرجل، فهو كان يتقن كيف يضع السيناريو للمباريات التي سيشارك بها أبطاله، فدائماً هناك كيس من المال أو حقيبة مملوءة بالدولارات معلقة بشكل مرتفع فوق الحلبة، وسلالم وحبال وكل أداة تزيد في التشويق، وتنتهي المباراة والدماء تملأ حلبة المصارعة والكراسي والطاولات مكسّرة، وحتى أن الضرب يطال الحكّام والمعلّقين بجانب الحلبة، فكلّ شيء مباح طالما أنه يزيد في التشويق والإثارة، وبالتالي عدد الجمهور وعدد البطاقات المباعة والأرباح في نهاية الأمر.
أمّا المصارعون فهم على قسمين، أحدهم يمثّل دائماً دور البطل ويأخذ أجره من الدولارات، والآخر يمثل دور الشرير ويأخذ أيضاً أجره من الدولارات، ولعل من يمثّل دور الشرير يكون نصيبه أكبر من الأجر، فكلّه خاضع للاتفاق المسبق.
إذن، كان الرجل ذو الشعر الأصفر من أكثر الأشخاص الذين أتقنوا دورهم، وكان من الاستحالة أن يقتنع أحدنا أن كل ما يحصل على الحلبة هو مسرحية تدرّب الممثلون على أداء فصولها بإتقان، وأن الدماء لم تكن سوى صبغات يخفيها اللاعبون تحت ثيابهم أو في مكان ما متفق عليه، فظاهر الأمر ضرب مبرح وتكسير عظام ورقاب، وحقيقته مسرحيّة معدّة مسبقاً.
مرّت السنوات، وإذا بذاك الشخص ذي الشعر الأصفر مرشحاً للرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، وقد فاز بولاية أولى، ثم لم يفز باللاحقة، فأرسل مؤيّديه واقتحموا الكونغرس كما يحصل في حلبات المصارعة، وكسّروا ما استطاعوا إليه سبيلاً، ثم فاز بولاية ثانية وقد تعرّض لمحاولة اغتيال قبلها، حيث أصابت الرصاصة أذنه وسالت الدماء، لكن لم يظهر أي أثر للرصاصة على أذنه فيما بعد، كما الدماء المزيّفة التي كانت تسيل على حلبة المصارعة.
هذا الرجل هو “دونالد ترامب”، متعهد المصارعة الحرة سابقاً، الذي يمارس السياسة بعقلية وأسلوب متعهدي المصارعة، حيث تبدأ كل جولة سياسية عنده بإلقاء خطابات عالية اللهجة وقرع طبول الحرب، لدرجة أن نصف الكوكب قد يحزم حقائبه للرحيل، ثم تبدأ المرحلة الثانية، فتجد الرجل يفاوض على السيناريو متفقاً مع الخصوم على الضربات والنتائج، تاركاً هامشاً لبعض الضربات التي قد تكون موجعة لكن لا تؤدّي إلى كسور إلّا ما ندر، لكنها حتماً ليست مميتة، المهم في النهاية أن يجني أكبر ربح مادي من المباريات، وأن يكون النجم الأكثر لمعاناً على الكوكب.
دونالد ترامب، لن يلعب مباراةً حقيقية مع متعهد مصارعة آخر،فتلقّي الضربات هو في الأصل للمصارعين وليس لمدرائهم ومتعهديهم، لكن إن اضّطر يوماً أن يدخل بمعركة فذلك لزيادة الأرباح فقط، وحتى رحيل هذا الرجل، فالعالم سيدار بلغة متعهدي المصارعة الحرة.
