في الثالث عشر من كانون الأول عام 1984، كتب الجنوب اللبناني واحدة من أكثر صفحات المواجهة إشراقاً في تاريخه المعاصر. يومٌ شهِد ملحمة شعبية وعسكرية واجه فيها الأهالي والمقاومون آلة الاحتلال الإسرائيلي بكل ما ملكوا من إيمان وإصرار، فسقطت “أسطورة الجيش الذي لا يُقهر” على عتبات القرى السبع التي رفضت الخضوع.
قبل هذا اليوم المشهود، كان الاحتلال يعيش مأزقاً عسكرياً وأمنياً في القرى الجنوبية الخارجة عن سيطرته. وفي محاولة لكسر شوكة المقاومة وتعويض فشله، اجتمع مجلس وزراء العدو واتخذ قراراً بتنفيذ عملية واسعة أطلق عليها اسم “طحن عظام المقاومين”، هدفها إعادة احتلال بلدات تحوّلت إلى نموذج في العصيان والاشتباك اليومي.

جهّز الاحتلال لهذه العملية ما يزيد عن عشرة آلاف جندي، وألف دبابة وناقلة جند، وعشرات الطائرات المروحية. واعتقد أن هذا الحجم الهائل من القوة النارية سيحسم الميدان خلال ساعات، ويعيد ترميم صورة جيشه المتداعية.
فجر 13 كانون الأول، انطلق الهجوم على سبع بلدات دفعة واحدة هي: معركة، بدياس، برج رحال، طورا، يانوح،
دير قانون، والعباسية. الهدف كان منع المقاومين من التنقل بين القرى، وتفريق خطوط الدفاع الشعبية التي أثبتت فعاليتها في السنوات السابقة.
تزامن الهجوم مع عاصفة مطرية ورياح عاتية جعلت المشهد أكثر قسوة، وكأن الطبيعة شاركت الجنوب معركته في وجه الدبابات المتقدمة.
أثبتت المواجهة منذ لحظاتها الأولى أن الاحتلال أخطأ التقدير. فقد واجه الأهالي جنوده المقتحمين بكل ما توفر لهم من أدوات: الحجر، العصا، الزيت المغلي، الصدور العارية، والجرأة الأسطورية.

رُويت عن ذلك اليوم قصصٌ تستحق أن تُدرَّس في كتب المقاومة الشعبية:
• امرأة جنوبية طعنت جندياً إسرائيلياً في صدره بسكين المطبخ.
• أخرى حملت طفلها ورمته بين أقدام الجنود لتربكهم وتمنعهم من التقدم.
• ثالثة افترشت الطريق بجسدها أمام دبابة متقدمة، لتقول بجسارتها: لن تمرّوا.

تجسّدت في هذه اللحظات وصية الإمام السيد موسى الصدر:
“إذا التقيتم بالعدو الإسرائيلي قاتلوه بأسنانكم وأظافركم وسلاحكم مهما كان وضيعاً.”
استمرّت المواجهات أكثر من اثنتي عشرة ساعة، فشل خلالها الجيش الإسرائيلي في تحقيق أيّ من أهدافه. لم يستطع اختراق القرى السبع، ولا كسر إرادة السكان، ولا إسكات صوت المقاومة.

ودوّن الجنوب أسماء شهيداته اللواتي شكّلن رمزاً للصلابة:
عايدة نصرالله، منى شور، ونجاة شور…
نساءٌ خطفن الخلود حين قدمن حياتهن دفاعاً عن كرامة أرضهن.

يومها قال الشهيد القائد داوود:
“ولّى زمن الحجارة… وسنواجه الرصاص بالرصاص.”
لكن الحجارة في ذلك اليوم صنعت بداية زمن الانتصار.
لم تكن مواجهات القرى السبع حدثاً محلياً فحسب، بل شكّلت شرارة ألهمت كل ساحات المواجهة مع الاحتلال. فقد رأى الفلسطينيون نموذجاً للانتفاض الشعبي الذي سيتجسد لاحقاً في انتفاضة الحجارة عام 1987. كما أثبتت هذه المعركة أنّ إرادة الشعوب قادرة على كسر التفوق العسكري مهما بلغ حجمه.

بنتيجة هذا اليوم، مُني الاحتلال بفشل ذريع في ما سمّاه عملية “سلامة الجليل 2”، فيما ربح الجنوب “سلامته” بإرادة أبنائه. وسقطت كليشيهات الدعاية العسكرية الإسرائيلية، وبقيت القرى السبع عصيّة كما كانت.

لقد كسرت هذه الملحمة مقولة “الجيش الذي لا يُقهر”، ورسّخت حقيقة أن إسرائيل تُهزم حين تواجه شعباً مؤمناً بقضيته ومدافعاً عن أرضه.
يبقى 13 كانون الأول يوماً يضيء مسار التحرير والمقاومة، وكلمة حق تؤكد أن أبناء الإمام الصدر كانوا وسيبقون في طليعة من حمل البندقية والفكرة:
“إسرائيل شرٌّ مطلق… والتعامل معها حرام.”

هو يومٌ صنعته النساء كما الرجال، وصاغته الإرادة كما البندقية، وسيظلّ علامة فارقة ودرساً للأجيال:
أن الجنوب ينتصر حين يقرر أن يقاوم.

صدر داوود
صور في :13/12/2025

By jaber79

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *