(
في زمنٍ تتشابه فيه الوجوه وتختلط فيه الأصوات، يرحل الكبار بصمتٍ يشبه هاماتهم، ويتركون خلفهم فراغًا لا يملؤه أحد.
رحل القائد الحاج هاني دبوق (هارون)، رجلٌ من طينة نادرة، من الذين لا تنتهي أسماؤهم برحيل أجسادهم، بل تبدأ حكاياتهم من جديد، في ذاكرة المقاومة وقلوب الأوفياء.
منذ البدايات، كان هارون واحدًا من أوائل الملبّين لنداء الإمام القائد السيد موسى الصدر، من الذين فهموا الرسالة وعاشوا المواقف، وحملوا الفكرة لا شعارًا بل سلوكًا يوميًّا. لم يكن التزامه بالخط الرسالي مجرّد انتماء تنظيمي، بل كان وعيًا عميقًا، وثباتًا لا يزعزعه تبدّل الزمن ولا تقلب الأحوال.
لم يكن كثير الكلام، لكن مواقفه كانت على حد السيف. رجلٌ مقدام، شجاع، صلب، لا يعرف المساومة، ولا يتراجع أمام التحديات. قدّم ابنه شهيدًا، وعاش بعده حارسًا للوصية، حارسًا للموقف، لا يعرف الضعف، ولا يسمح للحزن أن يحرفه عن دربه.
في كل بيت من بيوت عاملة، اسم الحاج هارون يُذكر باعتزاز. هو والد الشهيد، ذاك الفتى الذي لم يكتفِ بحمل البندقية، بل حمل الإرادة والعقيدة والنبض المقاوم. وعندما ارتقى باسل شهيدًا، لم ينكسر والده، بل وقف كجبلٍ نُحت بالصبر، وواصل الدرب وكأن ابنه لا يزال إلى جانبه، في الخندق نفسه، والبوصلة نفسها.
لقد عرفه الجميع أبًا، لكنهم أيضًا عرفوه قائدًا. لم يبحث عن الأضواء، لكنه كان من صُنّاعها في الميدان. صادقًا، وفيًا، بسيطًا، متواضعًا، لكنه شامخ كرايات العز.
في واحدة من آخر صوره الحيّة، جلس الحاج هارون متأملًا، صامتًا، وقد التف حوله رفاق الدرب
كان صمتُه أبلغ من الكلام، وانحناءة رأسه كأنها سجدة طويلة على أعتاب القضية.
في تلك اللحظة، اجتمع الصبر إلى جوار الصبر، وجلست البطولة إلى جانب الوفاء.
لم يكن بحاجة إلى أن يقول شيئًا… فقد قال كل شيء في حياته.
برحيل القائد هارون، تطوي المقاومة صفحة رجلٍ من الرجال الذين يندر تكرارهم. لكنه ليس غائبًا… فالكبار لا يموتون، بل يتحوّلون إلى معالم، إلى مشاعل، إلى وصايا نُور ترشد من يأتي بعدهم.
نم قرير العين أيها القائد الأبي، فقد أديت الأمانة، وكنت على قدر الوصية، وفيًا لدم الشهداء، ثابتًا على نهج الإمام، شامخًا حتى الرحيل.
وداعاً هارون