محمد دهشة
لا تنتهي خبريات الحاج وجيه حنقير (75 عاماً)، آخر «القهوجية» في صيدا، فهو من الرعيل الأول الذين ملأوا صيدا بصيتهم الحسن وقد رحلوا تاركين وراءهم حكايات طريفة عن الزمن الجميل، حين كانت المقاهي الشعبية ملتقى الناس ومصدر الأخبار السياسية والاجتماعية، من الانتخابات إلى الزواج والطلاق والولادة والكثير من أسرار البيوت.
حنقير الذي ورث المهنة عن والده محمود، بدأ بمزاولتها منذ نعومة أظافره، لم يُكمل تعليمه ونزل إلى العمل باكراً وكان عمره لا يتجاوز العشر سنوات، رافق والده إلى حين وفاته فانتقل من مقهى إلى آخر، وعايش الجيل الأول من «القهوجية» أمثال الحاج حمادة وسمير أبو عقدة وسعيد العقاد، حتى افتتح مقهى خاصاً به، متنقّلاً بين الأحياء إلى أن استقرّ به الحال في «حي البراد».
يقول حنقير لـ»نداء الوطن»: «المهنة اليوم لا تكفي كفاف العيش ولا تفتح بيوتاً جديدة، ولم تعد حكراً على أحد، فقد باتت المقاهي أكثر من عدد شعر الرأس، وتنتشر بين الحارات والأحياء والشوارع والزواريب، وأصبحت مهنة «الفاضي»، وقلّة من يحترفها على أصولها لجهة تعبئة نَفَس الأراكيل على أنواعها المعسّل أو النكهة أو العجمي».
خلال مسيرة عمله، حافظ حنقير على زبائنه رغم انتقاله من مقهى إلى آخر، بداية قرب استديو قدموس في السوق التجاري، ثم الجامعة اللبنانية، البوابة الفوقا، وكوكب الشرق خلف البلدية، فالانشراح التي كانت تجمع المثقّف والعامل و»البستنجي»، وصولاً إلى مقهى اليوم في حي البرّاد شمال المدينة، ويؤكّد أنّ «الزبائن باتت تعرف بعضها البعض، يلتقون ويتحدّثون في السياسة والحياة العامة، ويُفشّون خُلقهم ثم يعودون إلى منازلهم وهكذا دواليك كل يوم».
يحضّر الليموناضة
المهنة في عيون حنقير «تتطلب مُعلماً في إعداد الاراكيل وحتى القهوة والشاي والليموناضة وباقي المشروبات، ويقول «الاركيلة النكهة التي يحضر الزبون النفس معه 60 ألف ليرة، ومن عندي 70 ألفاً، والعجمي 120 ألفاً، لا أقبل إعداد المعسل لانّه يُفسد الاجواء ويُزعج الزبائن. كل شيء طاله الغلاء من الفحم والنكهة والسكر والشاي والحامض وسواه، ولولا موسم بيع الليموناضة في رمضان لكان الأمر كله خسارة بخسارة».
يحتفظ وجيه في المقهى بصور لوالده القهوجي محمود، يوزعها على جدرانه متباهياً وهو يقف عند إحداها، ويقول «شغل القهوة متعب وعليك أن تحفظ ما يريده الزبون عن ظهر قلب، وإن تُعلّم نربيش كل واحد منهم وتحفظ نرجيلته»، قبل أن يضيف: «من زمان ما كان في معسل، كله تنباك وطني أو عجمي، امّا اليوم فجيل الشباب يخبط معسل حتى يدوخ. زمان كان ممنوعاً أو لا تجد شاباً ينفث النرجيلة، كان يخاف من أهله ويخشى عقابهم».
ويستعيد حنقير ذكريات الماضي ودور المقاهي في الانتخابات وحشد الدعم لتأييد هذا المرشح أو ذاك ويقول: «في إحدى الجولات الانتخابية كانت المعركة حامية الوطيس وعلى الصوت الواحد، فكان الترغيب والترهيب وصولاً للضرب وذلك عندما سقط النائب معروف سعد، اشتغل التكسير والضرب بالموس والكراسي وكانت من الخيزران يعني تقيلة ومحرزة، ووصلت إلى زجاجة النرجيلة، وبعدها تجري «الصلحة» وينتهي كل شيء. عند المشكلة كانت تحضر فرقة الـ 16 وفرقة أخرى من قوى الأمن الداخلي وتفتش المقاهي وتبحث عن كل من يحمل سكيناً».
ويروي نهفة، ويقول: «أنا ما بعمري حملت سلاحاً، ولكن مرة في العام 1975 أول الأحداث الأهلية، خبأ أحد الأشخاص «الفرد» عندي، فوضعته على سبيل المزاح على خصري ويا ويلو يلي بيطلب نارة أو طلب، كلن خافوا مني» قبل أن يتنهد «وقتها لا في تلفون تصوّر ولا واتساب تنقل الاخبار».
حنقير الذي دخل إلى عالم التواصل الاجتماعي تماشياً مع العصر يضع إعلاناً عن شراب الليموناضة والتمر الهندي، إضافة لطلب النرجيله ديليفري، اسمه بات معروفاً في المدينة وعلى قدّ الحال، ويعطف على القطط، فتراه يخدم الزبائن ويقدّم الطعام لقطة ويقول «هيدي روح، ما الي قلب أنا آكل والقطة تنظر لي فقط بعينيها، لقد خفَّ الشغل بإستثناء أصوات الزبائن ما بين صراخ (لعيبة الورق يعني الشدّة) وبين من يطلب نارة وآخر شفة قهوة، اذ على القهوجي أن يوزع عجمية شاي (كوب شاي صغير على نفقته) إكرامية للزبون»، فيما اللافت انه لا ينفث النرجيلة، بل يُدّخن السجائر وكثيراً ما يشعل أكثر من واحدة معاً، ويضعها قرب منقل الفحم أو المجلى أو الطاولة وهنا وهناك وهو يلبّي طلبات الزبائن.
نداء الوطن