بدءاً من يوم الخميس المقبل سيتعامل القضاء مع كلّ مقتحم لمصرف بالقوّة بهدف استرداد وديعته باعتبار فعلته عملاً جرميّاً يستحقّ التوقيف والسجن وصولاً إلى الأشغال الشاقّة الموقّتة، حتى لو كان يحمل مسدّساً بلاستيكياً ويتعامل بإنسانية طافحة مع موظّفي المصرف… وحتى لو كان المبلغ الذي يسعى إلى الحصول عليه يمكن أن يُنقذ حياة إنسان قابع في المستشفى.
هكذا رفعت السلطة السياسية والأمنيّة عن ساعديها ، وبدلاً من أن تنتج الحكومة حلّاً ماليّاً يُخفّف من وطأة كارثة خسارة اللبنانيّين لودائعهم رأت أنّ أفضل الحلول يكمن في وضع المودعين بمواجهة العناصر الأمنيّة والعسكرية الذين يصدف أن يكون بينهم عسكر وضبّاط كما حصل مع المودع الملازم أوّل في الجيش ك.س.
“التجريم” بين السياسة والأمن
القرار القضائي باعتبار المودع “مجرماً” لمجرّد مطالبته بحقّه ممّن “سرق وديعته” لاقى تأييداً رئاسياً من بعبدا وعين التينة والسراي، لكن لم يلقَ إجماعاً أمنيّاً على الرغم من سلوك الأزمة منحى أكثر خطورة.
في اجتماع مجلس الأمن المركزي الذي انعقد يوم الجمعة الماضي تضاربت الآراء بين رؤساء الأجهزة الأمنيّة في أصل المشكلة وآليّات حلّها.
ذهبت بعض الآراء الأمنيّة خلال الاجتماع إلى حدّ تبرير استخدام الشدّة مع مقتحمي المصارف واعتبار إضراب المصارف “أمراً متوقّعاً وعاديّاً” أمام مسلسل الاقتحام المتكرّر، وأكد أحد مسؤولي جهاز أمنيّ بأنّ نهار الاقتحامات كان أمراً منظّماً ومدبّراً ويجب التعاطي مع هذا الواقع من الآن وصاعداً باعتباره عملاً جرميّاً.
لكن أيضاً وُجد على الطاولة من ينادي بحلّ أمنيّ-سياسيّ-ماليّ شامل لأنّ “من غير الجائز أن تضعنا السلطة السياسية والماليّة بوجه المودعين… ونحن منهم”، إضافة إلى استحالة توزيع العناصر الأمنيّة على كلّ فروع المصارف في المحافظات بهدف تشديد الإجراءات الأمنيّة في محيطها.
بالنتيجة تضمّنت قرارات مجلس الأمن المركزي التي يُفترض أن تكون سرّيّة ثلاث نقاط:
- بدءاً من أوّل يوم عمل للمصارف بعد انتهاء إضرابها سيتمّ التعامل مع أيّ اقتحام لأيّ مصرف بوصفه جناية سرقة وسطو مسلّح وتهديد بالقتل استناداً إلى استنابة قضائية أصدرها مدّعي عامّ التمييز القاضي غسان عويدات وتلا المحامي العامّ التمييزي القاضي غسان الخوري مضمونها أمام أعضاء مجلس الأمن المركزي أثناء اجتماعه.
- ستتعامل الأجهزة بقسوة وشدّة مع كلّ معتدٍ على الأملاك العامّة والخاصّة ومَن يهدّد موظّفي المصارف بقوّة السلاح لاسترداد وديعته بالقوّة استناداً إلى استنابة عويدات للأجهزة الأمنيّة “بملاحقة الأعمال الجرميّة المرتكبة داخل فروع عدّة مصارف في لبنان والعمل على توقيف المرتكبين وإحالتهم لديه”.
- التقصّي الأمنيّ لمدى وجود عمل منظّم بين كلّ الاقتحامات التي يصدف أنّها توزّعت يوم الجمعة بين مناطق الغازية في الجنوب والطريق الجديدة والرملة البيضا في بيروت والكفاءات في الضاحية الجنوبية، وشحيم في إقليم الخروب، وطالت مصارف متعدّدة. وقد جاء في استنابة عويدات: “العمل على كشف مدى ارتباطها ببعضها وتوقيف المحرّضين باعتبار هذه الأفعال بمثابة عمليات سطو مسلّح على المصارف وغايتها توقّف العمل المصرفي في لبنان وإحداث مزيد من أزمات مالية واقتصادية”.
وستكون قرارات مجلس الأمن المركزي محطّ اختبار بدءاً من يوم الخميس في حال استمرّت الاقتحامات لاسترداد الودائع. فماذا سيعني استخدام الشدّة مع “المودع” الذي يسعى إلى استرداد ماله أكان فريش أو شيكاً مصرفيّاً؟ وكيف يمكن استخدام الشدّة مع أصحاب حقوق سُرق جنى أعمارهم بإشراف السلطة الحاكمة؟
تداخل عمل الأجهزة
طُرِحت في الاجتماع الأمنيّ الأسبوع الماضي عدّة إشكاليّات منها: تضارب عمل الأجهزة الأمنيّة ضمن البقعة الواحدة. فقد أظهرت الاقتحامات السابقة أنّ عناصر الأجهزة يصلون تباعاً إلى “مسرح الاقتحام” ويعملون solo من دون تنسيق بينهم، وقد أثار الجيش تحديداً هذه النقطة مؤكّداً على لسان ممثّله في الاجتماع أنّ “الجيش يقوم بدوره أصلاً ولا يحتاج إلى من يقول له ماذا يفعل، لكنّنا نصل ونرى كلّ الأجهزة موجودة على الأرض”.
أمّا الإشكاليّة الأهمّ فترتبط بأوجه استخدام الشدّة. حتى الآن انتهت كلّ الاقتحامات سلميّاً بعد حصول مفاوضات مع المودعين من دون أيّ تدخّل أمنيّ مباشر، ما عدا الاقتحام الذي تعرّض له مصرف “فيدرال بنك” وتدخّل فيه ضبّاط من “شعبة المعلومات” من أصحاب الاختصاص في المفاوضات مع محتجزي رهائن، وكانت النتيجة حصول المودع بسام الشيخ حسين على جزء من وديعته.
فهل منح مجلس الأمن المركزي، عبر استنابة عويدات، الأجهزة الأمنيّة الغطاء إلى حدّ الدخول إلى المصرف واستخدام القوّة مع “المقتحم” مع ما يمكن أن يؤدّي إليه ذلك من تعريض حياة المقتحم نفسه والموظّفين والعناصر الأمنيّة للخطر؟
يُذكر أنّ مدّعي عامّ التمييز استند في استنابته القضائية إلى عدّة مواد من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ومنها بند “حرمان الحرّية الشخصية” من المادة 569 الذي يعاقب بالأشغال الشاقّة المؤقّتة لكلّ من حرم آخر حرّيّته الشخصية بالخطف أو بأيّ وسيلة أخرى، ومن ضمن ذلك إبقاء شخص رهن إرادة شخص آخر ومنعه من ممارسة حياته وتصرّفاته. وإذا وقع الجرم على موظّف أثناء قيامه بوظيفته أو في معرض قيامه بها، وإذا استعمل الفاعل ضحيّته رهينة للتهويل على الأفراد أو المؤسّسات أو الدولة بغية ابتزاز المال أو الإكراه على تنفيذ رغبة أو القيام بعمل أو الامتناع عنه، إضافة إلى بند “استيفاء الحقّ بالذات” من المادّة 429 وموادّ عدّة في قانون العقوبات مرتبطة بحيازة أسلحة والتهديد بالسلاح وسطو مسلح وسرقة.
في السياق نفسه كان لافتاً تركيز بعض وسائل الإعلام في الأيّام الماضية على اعتبار اقتحام المصارف الخمسة يوم الجمعة بمنزلة عمل منظّم ويُدار من قبل مجموعات باتت مكشوفة للأجهزة الأمنيّة وسيتمّ الكشف عن “مشغّليها” لاحقاً، وهو الأمر الذي تنفيه كلّ المجموعات الناشطة التي ترفع لواء الدفاع عن حقوق المودعين مؤكّدة أنّ “الظلم والإجحاف وتقاعس السلطة وتواطؤ المصارف وإجرام الطبقة السياسية كلّها عوامل تدفع المودعين من دون أيّ تنسيق إلى أخذ حقّهم بيدهم وسلميّاً”.
مع ذلك، يقول مصدر قضائي لـ “أساس” إنّ “تحرّك النيابة العامّة التمييزية بغطاء من السلطة السياسية، وأمام تدهور الأوضاع نحو الأسوأ، يهدف إلى الردع أكثر من عقاب المودعين، إذ لا يجوز ترك الأمور فالتة، وهو ما قد يسمح بخروج الوضع عن السيطرة وندخل في الفوضى الشاملة”.