لوسي بارسخيان
تكمن أهمية تقرير ديوان المحاسبة حول فضائح قطاع الإتصالات التي لفّت صفقتي مبنيي قصابيان والباشورة، بكونه حدّد المسؤوليات بالأسماء، وبحجم تورّط كل طرف مسؤول في هدر المال العام. في وقت أظهر التقرير أيضاً تداعيات هذه الإرتكابات، التي لن تنتهي عند الخسارات التي وقعت، وإنما بما قد ينتج عنها من تبديد إضافي للأموال. وهذا ما حصل تحديداً في صفقة إستئجار مبنى قصابيان في الشياح، الذي لم تشغله شركة MIC2 ولو ليوم واحد، ولكنها لا تزال مطالبة بتسديد كامل قيمة العقد الموقّع، بعد الدخول في نزاع قضائي مع مساهميها، حيث تقدّر قيمة الخسائر الإضافية التي قد تترتّب من جرّاء هذه الصفقة بنحو 20 مليون دولار، تضاف إلى أكثر من عشرة ملايين دولار دفعت حتى اليوم لنفقات إستئجار وتأهيل المبنى.
في معرض التنصل من المسؤوليات التي وثّقها ديوان المحاسبة حول هذا المبنى، يقول بطل ملف قصابيان الوزير نقولا صحناوي إنّه صاحب الفضل في تخفيض قيمة الإيجار الذي كان محدّداً للمبنى من 38 مليون دولار إلى 28 مليون دولار، علماً أنّ تقرير ديوان المحاسبة يحدّد الأجرة وفقاً للعقد الموقّع بـ31 مليون دولار. إلا أنّ هذه المعلومة بحد ذاتها تطرح التساؤلات عن السبب الذي يجعل مالكي المبنى يخفّضون السعر بقيمة لا تقل عن سبعة ملايين دولار، ما لم تكن الأرقام مضخّمة في الأساس أو أن هناك من يصرّ على إتمام هذه الصفقة لجني أرباحها المضمونة مهما كان الثمن. وهذا ما يظهره تقرير ديوان المحاسبة تحديداً.
تبدأ القصة في سنة 2011 مع العقار 1632 في الشياح. إذ يتوالى ذكر ثلاثة وزراء تدرّج الرأي معهم، بين رفض كلي لاستئجار المبنى من قبل الوزير شربل نحاس في سنة 2011 لأسباب علّلها بـ»قدم المبنى، إرتفاع بدل الإيجار، وكونه في حالة غير مناسبة»، إلى قبول تام للصفقة من قبل الوزير نقولا صحناوي في سنة 2012، وسط إصرار مريب على إتمامها من قبل لجنة إشراف المالك، وهي لجنة يعيّن وزير الإتصالات جميع أعضائها لتمثيله في علاقاته مع الشركة المشغّلة، ولا سيما في ما يتعلق بإعطاء الموافقة على النفقات التشغيلية… إلى طلب الإستفادة من إمكانية الفسخ المبكر للعقد فور انتهاء السنة الثالثة، في عهد الوزير بطرس حرب سنة 2014، فيما رفض الأمر مالكو شركة قصابيان وقدّموا دعاوى لحفظ حقّهم بالعقد.
توزّع المسؤوليات عن الهدر
وإذ باشرت النيابة العامة المالية الدعوى العامة أمام قاضي التحقيق الأول، فقد أحال الأخير الملفات إلى المجلس النيابي لاتخاذ الموقف المناسب لجهة ملاحقة الوزيرين نقولا صحناوي وبطرس حرب. الأول بسبب مسؤوليته المباشرة عن الإرتكابات التي رافقت استئجار المبنى وأدّت إلى إهدار المال العام، والثاني لاكتفائه بفسخ عقد الإيجار رغم علمه بوجود صفقة مشبوهة وهدر للمال العام، في مقابل تقدّمه بإخبار وليس بشكوى حول هذه الشبهات. بالإضافة إلى المسؤولية التي حمّلت لكل من شركة MIC2، وللجنة إشراف المالك ولا سيما رئيسها أنطوان حايك وفقاً لسردية تقرير ديوان المحاسبة التالية.
منذ سنة 2005 أعربت MIC2 عن حاجتها للإنتقال من مبناها المركزي في منطقة المرفأ للتوسّع في عقار واحد تتوفر فيه المساحات التي تحتاجها. إلا أن طلبها بموافقة مبدئية على استئجار مبنى قصابيان لم يتحقق سوى بعد ست سنوات. فأبلغت الشركة لجنة إشراف المالك سنة 2011 بتوفر جميع المواصفات اللازمة فيه. وأرسلت نسخة عن عقد إيجار حدّدت قيمته بنحو 38 مليون دولار. مقدّرة كلفة الانتقال بـ5.1 ملايين دولار.
غير أنّ طلب الشركة لم يُستجب إلا بعد سنة، مع حلول الوزير صحناوي في موقع المسؤولية، وبالتالي تبدُّل أعضاء لجنة إشراف المالك السابقة أيضاً. فلم تبد اللجنة أي ملاحظة على بدل الإيجار المرتفع، ولا طلبت إيضاحات عن طريقة التثبت من توافقه مع البدلات المعتمدة في السوق. وكل ما اشترطته قبول منح الشركة حق إنهاء عقد الإيجار بصورة مبكرة، والحصول على تعويض في حال تعذّر إخلاء المالك الطابقَ السفلي. بين وصف الشركة المبنى وتقارير الخبراء اللاحقة، لم تختلف فقط مساحته التي تدنّت من 16712 متراً مربعاً إلى 14530 متراً مربعاً. وإنما أيضاً الإفادات حول الواقع الهندسي والفني للمبنى والذي جعله غير قادر على الإشغال فوراً.
لم تظهر MIC2 في المقابل تخطيطاً إستراتيجياً ثابتاً في سعيها لاستئجار المبنى. إذ إنها بعد شهرين من قبول العرض تراجعت عن مطلبها بإنجاز الصفقة لانتفاء الغاية. في مقابل موافقة لجنة إشراف المالك لها على عقد إجارة طابقين في أحد مباني بيروت للإنتقال ببعض أقسامها إليهما. وفهم من ذلك توقّف التفاوض لإنجاز صفقة استئجار قصابيان. ولكن بعد شهر واحد فقط وبصورة مفاجئة عاد رئيس لجنة إشراف المالك أنطوان حايك وأرسل من حسابه الشخصي في البريد الإلكتروني مسودة نهائية لعقد إيجار مبنى قصابيان، طالباً السير بالإتفاقية وشروطها مجدداً، وهذا ما اعتبره ديوان المحاسبة أنه يكشف إنخراط الحايك شخصياً بالتفاوض على العقد، ومبادرته لإنجازه بدلاً من شركة MIC2.
إلا أن رئيس مجلس إدارة الشركة كلود باسيل نفّذ الأمر ليظهر وكأنه هو المبادر لإنجازه. وبالفعل في أقل من 20 دقيقة من تلقّيه الرسالة الإلكترونية من حايك، أرسل عقد الإيجار إلى محامي الشركة، طالباً التصرّف بصورة فورية، واصفاً الموضوع بالمستعجل، بعد أن كان قد تحدّث عن «انتفاء الغاية» من إبرامها قبل فترة قصيرة.
يتحدّث تقرير ديوان المحاسبة في المقابل عن «تنسيق خفي وغير معلن بين باسيل وحايك» وخصوصاً بعدما أرسلت مسودة نهائية عن العقد بصورة رسمية إلى لجنة إشراف المالك بعد خمسة أيام. لتوافق اللجنة في اليوم التالي على العقد، ويوقع نهائياً بعد ثلاثة أيام.
وبالإنتقال إلى تفاصيل العقد فقد نصّ على بدء الإيجار مباشرة من تاريخ توقيعه في أيلول 2012 من دون منح الشركة مدة سماح لإنجاز التعديلات المطلوبة بداخله. هذا في وقت لم تستعجل الشركة توقيع عقدها مع دار الهندسة التي فازت بمنافسة لتصميم البناء والخدمات الإستشارية، فوقّعته في حزيران 2013 وهي فترة كانت قد سدّدت فيها إيجارات بقيمة 1.65 مليون دولار من دون الاستفادة من المبنى.
ولكن تقرير دار الهندسة أظهر عيوباً هندسية خفية في أساسات البناء تؤثّر على متانته وتحول دون إمكانية استعمال المأجور وفق الوجهة المحدّدة. وهذا ما شكّل نفياً لما ورد في العقد لجهة خضوع المأجور لمعاينة MIC2 سبقت توقيعه. فطلبت MIC2 من الشركة المالكة لقصابيان تحمّل كلفة إصلاح هذه العيوب التي قدّرت قيمتها بـ 1.5 مليون دولار. إلا أنّ الشركة المالكة رفضت الأمر.
بعد سنة من تنفيذ العقد وإثر رفض لجنة إشراف المالك تسديد المبالغ من المداخيل المحقّقة لـMIC2، وقّعت إتفاقية تعديلية له. فقبل مساهمو قصابيان بدفع 700 ألف دولار من الكلفة المطلوبة للتأهيل، على أن تحسم بالتقسيط من مبلغ الإيجار إبتداء من السنة الثالثة، مع تمديد العقد لستة أشهر بعد انتهائه. وهذا ما استغلّه مساهمو قصابيان لاحقاً لإسقاط حق الشركة بفسخ العقد بعد السنة الثالثة، وربط تسديد المبلغ المطلوب للتأهيل باستمرار العقد إلى خواتيمه.
ما يلفت بموازاة إشراك قصابيان بتكاليف التأهيل، إرتفاع كلفة الإنتقال في سنة 2014 من 5.1 ملايين دولار إلى نحو 10 ملايين دولار. هذا في وقت قلّلت الإتفاقية التعديلية مسؤولية الشركة في العيب المكتشف بالمبنى، عبر محاولة تغطيته بأعمال هندسية داخلية «ديكور». بوقت إرتفعت أيضاً قيمة التصليحات من 1.5 مليون دولار وفقاً لتقديرات دار الهندسة، إلى 1.8 مليون وفقاً للعقد الذي وقّع مع شركة PARALLEL التي كلّفت بأعمال التصليح.
طلب فسخ العقد
لدى استلام الوزير بطرس حرب المسؤولية، طلب في نيسان 2014 فسخ العقد لوقف الهدر المتسارع وذلك بعدما تكبّدت MIC2 7.5 ملايين دولار من دون أن تتمكّن من الإستفادة منه. وعليه وجّهت MIC2 بواسطة نائب رئيس مجلس إدارتها الجديد وسيم منصور كتاباً إلى وزارة الإتصالات بالخطوات المتخذة لإنهاء العقد إبتداءً من أول السنة الرابعة عملاً بحق الفسخ المبكر. إلا أن قصابيان رفضت الأمر، بحجة أن الاتفاقية التعديلية أبطلت هذا الحق. وإزاء تمسّك MIC2 بفسخ العقد طالبت قصابيان بتسديد جميع بدلات الإيجار على كامل العقد إضافة إلى العطل والضرر، معتبرة أنّ تسليم المأجور يجب أن يحصل بعد إتمام الأعمال المتفق عليها وليس بعد القيام بأعمال التخريب الحاصلة في المأجور.
في هذه الأثناء طلبت MIC2 في أيلول 2015 السماح لها بالرجوع عن إنهاء العقد، وسارعت لاتخاذ الإجراءات لذلك قبل أنّ يردها جواب لجنة إشراف المالك. فحمّلتها الأخيرة كامل المسؤولية، ولوّحت بمقاضاتها قضائياً.
إزاء الإنذارات التي وجّهتها قصابيان لتسديد بدل إيجار السنة الرابعة وحجز ديون لمصلحة MIC2 لدى طرف ثالث نتيجة للمنازعات القضائية التي نشأت، عادت لجنة إشراف المالك وسدّدت قيمة أجرة السنة الرابعة في تشرين الثاني من العام 2016 عبر تقديم كفالة بموجب شيك مصرفي، طالبة إتخاذ إجراءات المنازعة بصحة وجود الدين. وعليه بات الملف خاضعاً للملاحقات الجزائية…
“الديوان” وضع إشارة على عقار الباشورة… وكذلك الشركة المالكة!
في آخر تطوّرات النزاع على مبنى MIC2 في الباشورة، ثبت بناءً على إفادة عقارية حول العقار 1526 تمّ الإستحصال عليها يوم أمس، أنّ ديوان المحاسبة أنجز فعلاً يوم الخميس في 11 أيار الجاري، وضع إشارة عقد بيع لصالح شركة MIC2 على العقار المذكور، بهدف منع التصرّف بالعقار وحمايته، إلى حين إنتهاء النزاع القضائي الناشئ حوله نتيجة تخلّف MIC2عن سداد ثلاثة أقساط متتالية من ثمن المبنى.
إلا أنّ اللافت أيضاً تضمّن الإفادة العقارية تحرّكاً مقابلاً من قبل شركة CITY DEVELOPMENT التي وضعت بالتاريخ نفسه إشارة بدعوى فسخ عقد البيع المقدّمة من قبلها على MIC2. إذ تقاضي CITY DEVELOPMENT الشركة وتطالبها بتطبيق بنود عقد البيع الذي ينصّ على إخلاء المبنى من دون أي مراجعة في حال التخلف عن تسديد باقي أقساطه.
يأتي هذا التطوّر ليخالف ما افترضه وزير الإتصالات جوني القرم بكونه أكمل واجباته عندما وضع شيكاً بالأقساط المتأخرة وقيمتها 45 مليون دولار لدى كاتب العدل، وترجيحه أن مجرد تقاضي الشركة المبلغ يشكّل تنازلاً من قبلها عن الدعوى. فيما وضع الإشارة من قبل CITY DEVELOPMENT، يؤكّد مضيّها بدعواها المرفوعة في المحكمة الإبتدائية. وعليه ترى مصادر مطّلعة على الملف، أن وزير الإتصالات بادعاءاته المتكرّرة بأنه قام بواجباته، من دون أن يسعى الى تسوية قانونية مع CITY DEVELOPMENT التي تنازع MIC2 ومن خلالها الدولة، على ملكية المبنى، سيتسبّب في خسارة هذا المبنى، مع تكبيد الخزينة مبلغ 45 مليون دولار. والتسوية معCITY DEVELOPMENT تبدو أكثر من ضرورية في هذه الحالة، خصوصاً أنه بات هناك أكثر من مسألة قانونية عالقة معها، ومن بينها أيضاً الغرامات اليومية المتراكمة جراء التأخّر في سداد الأقساط، إلى جانب مطالبة الشركة بتنفيذ بنود العقد التي تعطيها الحق بفسخه بعد شهر على التخلّف عن سداد أحد أقساطه.
ومن هنا ترى المصادر أن استمرار إدارة هذا الملف بشعبوية من قبل وزير الإتصالات، ودفاعه عن إجراءات غير صحيحة ومتأخرة قام بها، وتلاعبه بالرأي العام، «سيطيّر» المبنى. والإشارة التي وضعتها CITY DEVELOPMENT على الصحيفة العقارية تشكل إنذاراً خطيراً بذلك…
نداء الوطن