أيام قليلة، وربما ساعات، وسنكون أمام اتفاق “سلام” لإنهاء الحرب على الشعب الفلسطيني المظلوم. سيقف العديد من زعماء العالم، وعلى رأسهم الرئيس ترامب، الراغب في نيل جائزة نوبل للسلام، ليتنافسوا في مدح السلام واعتباره السبيل الوحيد لسعادة البشرية واستمرارها. وهنا، لا بد من التعليق على عدة نقاط، وعلى رأسها التساؤل التالي: هل كان وقف الحرب الذي تم أو سيتم ناتجًا عن إرادة حقيقية، أم أن ترامب ومن خلفه كانوا مرغمين على ذلك حماية لأنفسهم ولإسرائيل، التي كانت تسير نحو أكبر خسارة إستراتيجية لها منذ نشأتها؟
سيتم الجواب من خلال نقاط ثلاث:
أولاً: فشل الحلول العسكرية وتآكل الثقة بالنظام الدولي
لقد بات من المؤكد أن أحداث غزة الأخيرة ليست مجرد حلقة في صراع إقليمي، بل هي زلزال جيوسياسي يمتلك القدرة على إعادة تشكيل موازين القوى والفكر السياسي في العالم بأسره. إن المفاوضات الجارية الآن هي شهادة صارخة على فشل الحلول العسكرية القائمة على القوة المفرطة والقتل والتنكيل، وتؤكد أن قمع الشعوب المظلومة لا يؤدي إلا إلى انفجار أعنف وأكثر تدميرًا. فالغضب المكبوت والظلم المتراكم يتحول حتمًا إلى قوة دفع هائلة تكسر جدران السجن، وهذا ما تجلى في غزة.
لذا، فإن الفكرة القائلة بأن القوة العسكرية وحدها قادرة على إخضاع إرادة شعب وتصفية قضيته هي فكرة خاطئة ومصيرها الفشل.
لن يعود العالم كما كان قبل وأثناء حرب غزة، بعد أن كشفت الأحداث الأخيرة أن ازدواجية المعايير لم تعد مقبولة في الساحة الدولية، وعرّت زيف خطاب “حقوق الإنسان” لدى العديد من القوى الكبرى. هذا الكشف سيؤدي إلى تآكل الثقة في النظام العالمي القائم وتزايد الدعوات لإنشاء نظام دولي أكثر عدالة وتسامحًا، سعيًا لاستمرار البشرية من خلال الحفاظ على إنسانيتها.
ثانياً: ظهور مرشحين جدد ودور فرنسا المحتمل
نحن أمام خروج مرشحين جدد لقيادة العالم، وعلى رأسهم نموذج صارخ هو دومينيك دوفيلبان، وزير خارجية فرنسا السابق، الذي سيشكل صدى لمدرسة سياسية جديدة. فدوفيلبان معروف بموقفه الصريح والمبدئي ضد حرب العراق عام 2003، ودعوته المستمرة إلى الحوار الحضاري ورفض التدخلات العسكرية.
إذا ما ترشح دوفيلبان للرئاسة، فإن برنامجه المناهض للحروب والداعي إلى حلول سياسية ودبلوماسية سيمثل تحولًا جذريًا في السياسة الخارجية الفرنسية. وإذا ما فاز، فمن المرجح أن يعيد لفرنسا دورها التاريخي كقوة توازن، مستقلة عن التبعية الأمريكية، وأن تلعب دور الوسيط النزيه في النزاعات الدولية بدلًا من أن تكون طرفًا منحازًا.
هذا النهج قد يمتد تأثيره على أوروبا؛ إذ يمكن لهذه المنهجية أن تشعل شرارة صحوة سياسية في القارة، حيث تتزايد الأصوات داخل الاتحاد الأوروبي التي تشعر بالاستياء من التبعية الجيوسياسية للولايات المتحدة. ولهذا، يمكن لفرنسا، بقيادة دوفيلبان، أن تقود تكتلًا أوروبيًا جديدًا يدعو إلى سياسة خارجية مستقلة تركز على الأمن الجماعي والتعاون الدولي بدلًا من التنافس العسكري والقطبية الأحادية.
ثالثاً: التغيير الجذري في الشارع الأمريكي ومناهضة الصهيونية
يبدو التغيير الجذري في أمريكا على مستوى الشارع ومناهضة الصهيونية، الذي أقرّ به ترامب في خطابه منذ أيام، هو الأكثر دلالة على التحول المستقبلي، وهو ما جعله يسارع إلى إنقاذ إسرائيل. فقد كشفت الأحداث الأخيرة عن شرخ كبير بين سياسات الحكومات الأمريكية المتعاقبة ورؤية الجيل الجديد.
تشير الإحصائيات والدراسات إلى تزايد ملحوظ في مناهضة السياسات الإسرائيلية وما يعتبر إبادة جماعية في غزة، بل وارتفاع مستويات التعاطف مع الفلسطينيين بين الشباب الأمريكي على وجه الخصوص. هذا الجيل، الذي نشأ في ظل ثورة المعلومات، يرى الصور والمعلومات مباشرة دون فلترة من الإعلام التقليدي الذي تسيطر عليه الصهيونية العالمية، مما أدى إلى:
رفض الصهيونية كأيديولوجيا استعمارية: فلم يعد الكثير من الشباب الأمريكي يعتبر إسرائيل “حليفًا لا يقبل الجدل”، بل أصبحت تُرى على أنها دولة تمارس الاحتلال والتمييز العنصري.
الغضب المتصاعد من استخدام أموال دافعي الضرائب لدعم ما يعتبرونه جرائم حرب وإبادة جماعية.
ربما يظن البعض أنني أفرط في التفاؤل، لكن ماذا يمكن تفسير فوز الشاب المسلم زهران ممداني، المناهض لإسرائيل جهرًا، في الانتخابات التمهيدية لرئاسة بلدية نيويورك التي تعد مهدًا ومركزًا للصهيونية، رغم محاولات ترامب لإسقاطه؟ ربما هذه الواقعة قد أثرت في وعي ترامب الذكي والماكر الذي يلتقط الإشارات من بعيد. ومنها أن الشباب الأمريكي رأى في التضييق على الفلسطينيين امتدادًا لقضايا العدالة الاجتماعية والعرقية داخل أمريكا نفسها.
إذا ما صح هذا التحليل، فإني أفترض أن المرشحين السياسيين في المستقبل، خاصة على مستوى الكونغرس وفي الرئاسة، سيجدون أنفسهم مضطرين لتعديل مواقفهم لتلبية متطلبات هذه القاعدة الانتخابية الشابة والمتنامية والمتباينة عن الأجيال السابقة.
في الختام
غزة اليوم هي مرآة للمستقبل. إنها تدعو العالم، بدءًا من الولايات المتحدة وأوروبا، إلى التوقف عن دعم الحلول العسكرية والقمع، والاعتراف بأن العدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها هما الأساس الوحيد للاستقرار والسلام الدائمين. وأي محاولة لمواصلة التضييق ستؤدي إلى المزيد من الانفجارات التي لن تستثني أحدًا.

































































