د.فيولا مخزوم
هاجمت جائِحة “كورونا” العالم البشري بشراسةٍ كبيرةٍ منذ عام وحتى يومنا هذا، وما زال العالم بأكمله في حيرةٍ من أمره في كيفيّة مواجهتها أو الحدّ من أضرارها. لكن الأخطر منها اليوم هو تنبؤات بعض عُلماء البيولوجيا بأنّ الجائِحة عبارة عن بروفة كاملة ونداء للاستيقاظ لمواجهة أكبر في المستقبل. ولعلّ من أبرز الأسباب الكامِنة وراء هذه التنبؤات هي الآثار المُترتِّبة على تغيير أنماط المناخ التي تهدِّد الإنتاج الغذائي، إلى ارتفاع منسوب مياه البحار التي تزيد من خطر الفيضانات الكارثية. وقد حذَّرت الأمم المتحدة من أن عدد لاجئي المناخ قد يصل إلى مليار بحلول عام 2050.
ويبدو أن ما تسبَّبت به جائِحة “كورونا” وما ستفعله في المستقبل تشبه قوَّة حرب عالمية اجتاحت أمماً بأكملها، ولكن الفرق بينهما بأنّها صامِتة من دون بارود ودخان، لا تستطيع سماع صوتها فتتوقّاها، ولا تستطيع رؤيتها فتتجنّبها، ستكون آثارها سلسلة من ردود الفعل المُتَسلْسِلة التي لا يمكن السيطرة عليها. وستؤدّي حال القمع الفيروسي المطوَّلة إلى زيادة مخاطر الأزمات المالية والاضطرابات السياسية والاضطرابات المجتمعية، ما يؤدِّي إلى زعزعة استقرار عالم غير مُستقرّ بالفعل.
إذا أصاب فيروس “كورونا” البلدان النامية بشدَّة، فقد يخرج الوضع عن السيطرة بسهولةٍ. يمكن أن يكون الوباء مسألة حياة أو موت لمليارات البشر.
وانطلاقاً مما تقدَّم علينا الاستعداد لمواجهة تحدّيات رئيسة وأولها الثورة الصناعية الرابعة، والاضطراب الدولي،لا سيما أننا نعيشُ في عالمٍ مُتأزِّمٍ ومجتمعٍ معرفي، في عصر الوقت فيه هارب، لا شيء فيه دائم، ثابت، أو مُستقرّ. وتعتري مجتمعات القرن الــ 21 سلسلة من الأزمات الداخلية الاجتماعية والبيئية وأزمة الدول والديمقراطية والمُمارسات غير المُستدامة وتهديد العوْلَمة. وتنطوي تبعات تلك الأزمات على تفاقُم انعدام المُساواة اقتصادياً واجتماعياً وظهور نوع جديد من الإدارة في العالم، يتَّسم بمراكز مستقلّة لصنع القرار.
تواجه الشركات والمُستهلكون نفس الوضع المالي غير المُستقرّ. مع إغراق جميع البلدان والشركات والمواطنين في ديون أعمق، فهل تبقى أية طاقة مُتبقيّة لمُكافحة تغيّر المناخ؟ هذه العاصفة العنيفة، ما يتبقّى سيكون نظاماً دولياً أكثر انقساماً، وقُدرة مالية مُتناقِصة، ومجتمع عالمي يائس، وبيئة فائِقة الشحن من الناحية التكنولوجية. هل ستُغيِّر البشرية هياكلها وأنظمتها وسلوكيّاتها في الوقت المناسب لتجنّب الحرب العالمية القادمة في القرن الــ 21؟ بينما يبقى أن نرى ذلك، أفترض أننا سنصبح أكثر استعداداً ولكن أقل قُدرة على القيام بذلك بعد الجائِحة.
ماذا عن حروب الوظائف المُتوقَّعة؟
بعد فترة وجيزة سنُلاحِظ جميعاً بأنّ بعضاً من الوظائف ستختفي ولم تعد مطلوبة نهائياً خلال العقد الثالث من الألفية الثانية، حيث ستحلّ مكانها الوظائف المرتبطة بالتكنولوجيا وتعتمد بشكلٍ كبيرٍ على تقنيات الذكاء الاصطناعي والروبوتات.
في البداية ربما يكون من الصعب جداً أن نصدِّق هذه الحقيقة أو نتقبَّلها، فتغيير الواقع الذي يعيشه الإنسان ويحيا به منذ سنوات عدَّة يُصبح من الصعب تقبّل تغييره، فهذه طبيعة الإنسان عندما يتعلَّق الموضوع بتغييراتٍ جذريةٍ كبيرةٍ جداً في العالم خلال فترة قصيرة من الزمن، ولكن لو عدنا بالزمن الى ما قبل العام 1980 قبل هذا التطوّر كله في مجال التقنيات الحديثة والتكنولوجيا الرقمية، فسنعترف حينها بأنّ لكل زمانٍ خصائصه ووظائفه تبعاً للتطوّرات التي وصل اليها. وخير دليل على ذلك أنّه لم يخطر ببالنا يوماً بأننا سنتعلّم أو نتعلّم من خلال شاشة الموبايل أو الحاسوب ونحن نجلس بمنازلنا.
لذلك، في هذه المرحلة الآن علينا أن نكون أكثر تعقّلاً وتقبّلاً للواقع وعدم الإنكار لما نحن مُقدمين عليه خلال الفترة المقبلة، الأمر الذي يتطلَّب منا أن نكون أكثر انسجاماً مع ما سنشهده من تغييراتٍ ضخمةٍ في العقدين المقبلين.
ولعلَّ أبرز ما نحن مقبلين عليه هو استبدال الإنسان وما يقوم به من مهامٍ اعتيادية، لتحلّ مكانه تقنيات الذكاء الاصطناعي التي ربما تكون على هيئة روبوتات أو أجهزة ذكية بمقدورها تنفيذ آلاف بل ملايين الأوامر بسرعةٍ كبيرةٍ وكفاءةٍ عاليةٍ ودقّةٍ مُتناهية وبتكلفةٍ قليلةٍ نسبياً.
باختصار شديد فإنّ الوظائف المُستقبلية ستقتصر على الأعمال التي لا تستطيع التقنيات الحديثة أن تقوم بها عوضاً عن الإنسان، ومن الوظائف التي من الممكن ألا نراها في المستقبل القريب، كالعمل في مجال صناعة الألبسة، أو قيادة السيارات، أو بعض الصناعات اليدوية. ولكن مهما بلغ ذكاء الأجهزة الاصطناعية لا بدّ من أنها تحتاج لمَن يقوم بتشغيلها وصيانتها إذا لزم الأمر، ولا بدّ من وجود أشخاص مُختصِّين يقومون ببرمجتها وتطويرها. كذلك، لا يُمكن الاستغناء عن العنصر البشري في استنتاج الأفكار وبناء التوقّعات مهما بلغت قُدرة الأجهزة الذكية.
وعند الحديث عن الإنسان المُبْدِع، فإن الحاجة إليه ستكون موجودة دائماً، فالأفكار الإبداعية مطلوبة في كل زمانٍ ومكانٍ، ويمكن القول في هذا الصَدَد إن الوظائف التي تعتمد على الإبداع هي في مأمنٍ ولا يمكن أن تزول حتى مع ظهور تقنيات حديثة تتمتَّع بالذكاء الخارِق.
في النهاية علينا أن نواجه حقيقة أن التقنيات الحديثة قد نجحت واستحوذت على جزءٍ كبيرٍ من حياتنا، لذلك في حال أردنا التفكير في مستقبلنا ومستقبل أبنائنا، علينا تدريب أنفسنا على أن تتعلّم ذاتياً بشكل مستمر، والسعي الدائم لتنمية كافة المهارات التي تتعلّق بالتقنيات الحديثة.