لن يعود قانون العفو إلى الهيئة العامة لمجلس النواب قريباً. أمس، كان قاب قوسين من الإقرار، لكن تناقضاته وتناقضات الكتل السياسية أحالته إلى المجهول. ذلك عزز الشروخ السياسية والطائفية التي تستحكم بالبلد، وزاد من التباعد بين تيار المستقبل والتيار الوطني الحر. أما من انتظر هذا اليوم ليحتفل، فلم يجد سوى العودة إلى الاعتراض في الشارع سبيلاًلم يستطع مجلس النواب إلا أن يكون على صورة الكتل الممثلة فيه. مجموعة من الملل المتباينة التي تعايشت مع دولة الطائف لثلاثين عاماً، من دون أن تخرج من عباءة الحرب الأهلية. محاولة الرئيس نبيه بري الفصل، شكلاً، بين المؤسسة الدستورية والتباينات الطائفية المشكّلة لها لم تنجح. هؤلاء مسلمون وأولئك مسيحيون. يسهل تمييزهم، هذه المرة، من موقفهم من قانون العفو العام. لم يتردّدوا في إظهار حقيقتهم، مجموعة من زعماء القبائل التي لا يجمعها سوى تقاسم المغانم، حتى متى شحّت المغانم وهنت أمامها الوحدة الوطنية.
قانون العفو العام يتأرجح منذ سنوات. ثمة معضلة أساسية فيه. المطلوب أن تشعر كل قبيلة بأنها مستفيدة منه. ليس القانون مبنياً على أسس وطنية. لم يقل أحد ما هي الفوائد التي يمكن تحصيلها من العفو. لم يكترث أحد لمظلومين وجب حلّ قضيتهم، بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي. تيار المستقبل وجد نفسه مضطراً لحشر قضية السجناء الإسلاميين، والمقصود هنا السجناء السنّة، في برامجه الانتخابية، كما في الكثير من بياناته. القضية مربحة بالنسبة إليه، بغضّ النظر إن كانت قضية حق أو لا. ثنائي «حزب الله» و«أمل» ليس بعيداً. لأن أغلبية المطلوبين أو المحكومين في قضايا مخدّرات شيعة، تبنّى قضيتهم. الأحزاب المسيحية، وتحديداً القوات والتيار الوطني الحر والكتائب، وجدوا ما يقايضون عليه. مجدداً ليس المعيار حقوقياً، بل مصلحياً. كانت حصتهم من القانون العفو عن عائلات العملاء الفارين إلى إسرائيل.
كل ذلك تظهّر في جلسة تشريعية انتظر منها الناس أن تجد حلولاً لقضاياهم الملحّة، للجوع الذي يهدّدهم مع مرور كل يوم. فيما نحت في الواقع لتعبّر عن حقيقة غياب الدولة الراعية.
قانون العفو عُجن في اللجان، بما يسمح بمروره في الهيئة العامة. لكن في الطريق إلى جلسة أمس، تبيّن أن الأمور «مش ماشية». النائب شامل روكز قلب الطاولة في وجه «عديله» رئيس التيار النائب جبران باسيل، ومعه القوات والكتائب. إعلان روكز منذ يومين أن «العفو عن قتلة الجيش اللبناني جريمة وطنية موصوفة»، فرمل حركة الكتل الثلاث. لم يعودوا قادرين على السير بقانون يبرّئ قتلة الجيش. هذا يعني أنه حتى بند عودة عائلات العملاء لم يعد يمكنه أن يشفع لهم «خطيئة» الإعفاء عن قتلة الجيش. وهذا يعني أنهم لن يحملوا وزر الموافقة على قانون العفو، وإن أيدوا إقراره بأصوات الآخرين!
في الجلسة، صارت الوجهة واضحة. أما وقد فشلت المساعي المسبقة للتصويت على القانون مادة مادة، بحيث يمكن لكل طرف أن يعارض المادة التي لا يريدها، بما يؤدي في النهاية إلى إقرار القانون، بموافقات وفيتوات متبادلة، سقطت. لم يبق سوى حل أخير وقد طرحه رئيس المجلس. التصويت على القانون بمادة وحيدة. هنا، تؤكد مصادر مطلعة على المداولات أن مجرد موافقة كل الأطراف على المبدأ كان يمكن أن يمرر القانون، وإن عارضته هذه الكتلة أو تلك. هذا يعني أن اعتراض العونيين كان يمكن أن يمرّ لو بدا مفاجئاً. من كسر تلك الحلقة هو النائب جميل السيد، الذي سبق أن كان عرّاب الحل في اللجان، عبر صياغة وسطية لمادة عائلات العملاء حصلت على موافقة المؤيدين والمعارضين للعفو عن هؤلاء.
قبل ذلك، وعند الوصول إلى المادة الثامنة من جدول الأعمال، أي اقتراح قانون العفو، ساد الصمت في القاعة. تحدث بري عن أهمية التضامن والتكاتف الذي أدى إلى نصر 2006، ثم اقترح التصويت على القانون بمادة وحيدة «لنلقّن درساً لكل الناس بدون استثناء بأننا نستطيع أن نأخذ موقفاً». سعي بري إلى إمرار القانون بهدوء اصطدم أولاً بالنائب أسعد حردان. الأخير كان واضحاً: المادة المتعلقة بالعفو عن العملاء ستؤدي إلى إشكالات نحن في غنى عنها. باختصار، توجّه إلى بري بالقول: لماذا يجب أن ندخل في الزواريب، البلد لا يمكنه أن يحمل مسألة من هذا النوع.
هنا تدخل بري ليقول: لا تنسوا في حياتكم أن أهم أساليب المقاومة هو الوحدة الوطنية. أنتم ونحن وحزب الله وكل المقاومين نعمل في سبيل الوحدة الوطنية ولا أقف عند تفصيل.
طلب السيد الكلام، مسدداً الضربة القاضية للاقتراح. قال إنه إذا أريد السير بالتصويت على القانون بمادة وحيدة، فيفترض أن يصوّت عليه الجميع. وصلت الرسالة إلى جبران باسيل، فطلب الكلام. أعاد التوضيح أن هذا الموضوع إشكالي، معلناً أن التكتل ضده في المبدأ، وخاصة في ما يتعلق بتخفيض الأحكام على كل الجرائم. لكنه قال أيضاً إن التكتل يحاول أن لا يأخذ البلد إلى مشكلة. خلاصته، بعدما لمّح إلى إمكانية المغادرة (قال له بري «ما بدي اسمعها»)، إنه يؤيد التصويت على القانون بمادة وحيدة، لكنه لا يمكن منع التكتل من التصويت ضد القانون.
بذلك، فرطت المحاولات التوفيقية التي لجأ إليها بري. حاول ترميم الأمر باجتماع «على الواقف» جمعه إلى نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي والنواب: جميل السيد، ابراهيم الموسوي، جورج عدوان، علي خليل وهادي حبيش، لكن التباعد كان أكبر من أن يحسم في دقائق. لم ييأس بري. رفع الجلسة لعشر دقائق، علّ محاولات لمّ الشمل تنجح.
مرّت نصف ساعة، ليخرج بعدها من الغرفة الجانبية ويليه الفرزلي والنواب: أسعد حردان، محمد رعد، علي خليل، هادي حبيش، سامي الجميل، جبران باسيل، جميل السيد، سعد الحريري، جورج عدوان وميشال معوض، بوجوه شاحبة. فثلاثيّ التيار والقوات والكتائب أصرّ على التصويت ضد القانون. وفي الوقت نفسه أصرّ على إقراره مع المادة الثامنة، بما يعني تحميل الأطراف الأخرى وزر إقرار العفو عن عائلات العملاء، من دون مقابل. وعندما طرح هؤلاء التصويت على القانون من دون المادة الثامنة، هدد الثلاثي بالانسحاب من الجلسة. باختصار، أرادوا القانون لكنهم رفضوا تحمل مسؤولية إقراره فسقط، ربما إلى الأبد.
جلس رئيس المجلس في مقعده، والتوتر بادٍ عليه. رمى الأوراق التي بين يديه على الطاولة متأفّفاً، ثم قال: «دعوا قانون العفو على جنب، ربما تنزل الرحمة بعد قليل».
لم تنزل الرحمة، بالرغم من المساعي التي ظلّ يقوم بها عدد من النواب. غمز الحريري عمّته بهية، طالباً منها أن تتبعه. ما هي إلا لحظات حتى اختفى الحريري. لملمت العمّة أوراقها وانسحبت، ثم تلاها باقي أعضاء كتلة المستقبل. انسحب أيضاً النائب فيصل كرامي. قال الحريري في الخارج: «كالعادة، نعمل من أجل الوصول إلى مكان، لكن هناك من يريد أن يعيدنا إلى النقطة الصفر. أنا اليوم أنسحب من الجلسة وسيكون لنا موقف في المستقبل». أضاف: «نحن نعمل بكل حسن نية لكي نصل إلى قانون عفو عام يشمل أكبر عدد من الناس، بغضّ النظر عن بعض التحفّظات التي أبدتها بعض الكتل». أما كرامي، فقال «قررت الانسحاب من الجلسة بسبب ما جرى من خلوات والاتفاق على وضع اقتراح قانون العفو جانباً، وهذا أمر نرفضه وأنا مصرّ على التصويت على قانون العفو بنداً بنداً وليس مادة واحدة».
في المقابل، رد العونيون على الحريري باتهامه بالسعي إلى المقايضة بين الفارّين إلى فلسطين المحتلة والمحكومين بجرائم قتل وإرهاب.
في هذا الوقت، كان بري قد أكمل الجلسة، طارحاً اقتراح قانون لتعديل قانون حماية كاشفي الفساد، بما يسمح بتقديم التقارير إلى النيابات العامة وليس إلى هيئة مكافحة الفساد فقط. في المقابل، أحيل اقتراح تعديل قانون الضمان الاجتماعي، المتعلق بعدم تطبيق المادة التي تنص على احتساب المعاش التقاعدي على أساس آخر راتب في حال كان الراتب قد خفض، إلى اللجان.
وكما كان متوقعاً، لم يمر قانون وضع ضوابط على التحويلات المصرفية («كابيتال كونترول») بعد الملاحظات التي أبداها كل من حاكم مصرف لبنان ووفد صندوق النقد عليه، فأحيل إلى اللجان المختصة، بعد فشل باسيل في إقناع المجلس بضرورة إقراره.
بعد ذلك، رفع بري الجلسة، فيما لم يتأخر الوقت قبل أن يعبّر المتضررون عن اعتراضهم على عدم إقرار قانون العفو عبر قطع الطرقات، حيث قطعت الطريق في ساحة النور في طرابلس وعند مفرق دورس في بعلبك.
ايلي الفرزلي – الأخبار